النكبة ليست هزائم فقط ..ما لا تعرفه عن قصص البطولة في القدس

كنانه نيوز –
“التقسيم سيمر، فليمر على أجسادنا، سأقاتل دفاعا عن بلادنا حتى الموت مهما قل السلاح والعتاد، سنحمي  أهلنا وبيوتنا بصدورنا ونحمي مَن خلفنا مِن البلاد العربية”، هذا ما قاله عبد القادر الحسيني لبهجت أبوغربية في أوج المعارك والهجمات الصهيونية عام 1948، فرد عليه الأخير “لن يدخل اليهود قطاعي وأنا حي، سأقتل قبل أن يستولوا على شبر منه”، ثم تعانق القائدان الصديقان وانصرفا.
استشهد الحسيني وهو يقاتل في معركة القسطل من العام ذاته، في حين أصيب أبوغربية ثلاث مرات بمعارك مختلفة، لكنه بقي على قيد الحياة وكتب مذكراته التي أرّخت لمقاومة القدس في النكبة، وتوفي لاحقا عام 2012 بعد أن نال لقب “شيخ المناضلين الفلسطينيين”.
وفي الذكرى الـ72 للنكبة، تتوارد للأذهان حكاية التهجير القسري الجماعي لأكثر من 750 ألف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم، ونجاح الحركة الصهيونية في السيطرة على القسم الأكبر من فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل. وغيبت موجة من البكائيات قصص البطولة والمعارك المحتدمة، بينما تظهر أصوات نشاز تقول إن الفلسطينيين باعوا أرضهم وتركوها.
ليست هزائم فقط
“إنها حرب وليست نكبة زاخرة بالهزائم فقط” هذا ما يقوله الباحث المهتم بتاريخ المقاومة المسلحة الفلسطينية بلال شلش، مستدلا على ذلك بأن القدس هي المنطقة الوحيدة تقريبا عام 1948 التي استطاع الفلسطينيون فيها المحافظة على نصف الأرض بالحد الأدنى، وإحراز هزائم متتالية في صفوف العصابات الصهيونية.
يؤكد شلش للجزيرة نت أن القوة العسكرية في القدس إبان النكبة حمت شرق القدس والضفة الغربية من السقوط آنذاك، إلى جانب يافا ومدن فلسطينية أخرى حمت بصمودها ظهر القدس.

دقت الحرب طبولها في القدس بالتزامن مع قرار تقسيم فلسطين نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1947، والتي تبعتها مواجهات اتخذت أشكالا مختلفة. وفي تلك الفترة كانت الهجرات الصهيونية -بتسهيل من بريطانيا- اتخذت لنفسها تجمعات ضمن مستوطنات متاخمة للقدس أو أحياء معزولة داخلها.
مقاتلون بارزون
وأمام المطامع الجليّة امتشق الفلسطينيون أسلحتهم لحماية المدينة المقدسة، وترأس عبد القادر الحسيني مجموعات مقاتليهم، كما برزت أسماء كثيرة من أبناء مدينة القدس وقراها، و”النجدات” من كافة فلسطين، كان أبرزها بهجت أبوغربية وأشقاءه، حافظ وصبحي بركات، فوزي القطب، قاسم الريماوي، إبراهيم أبودية، محمود وخالد الحسيني، حسن سلامة، عبد الله ومحمود العمري.

ساند الفلسطينيين في بدايات حربهم مقاتلون من مصر والأردن وسوريا واليمن، كما زودت الهيئة العربية العليا التابعة لجامعة الدول العربية الفلسطينيين بالسلاح والعتاد من خلال عبد القادر الحسيني، أو اختيار شبان فلسطينيين وتدريبهم خارجا.

 محمد جاد الله شارك في العديد من معارك النكبة وبات شاهدا حتى اليوم على أحداثها ورجالها (الجزيرة)
 محمد جاد الله شارك في العديد من معارك النكبة وبات شاهدا حتى اليوم على أحداثها ورجالها (الجزيرة)
مقاوم شاهد على النكبة
وقع الاختيار آنذاك على محمد جاد الله “أبو نهاد” ومجموعات أخرى من شباب القدس للتدريب في سوريا، ويقول جاد الله للجزيرة نت إنه عاد بعد قرار التقسيم إلى فلسطين وتدرب على الرماية وتصنيع الألغام في قريته صور باهر جنوب شرق القدس، وبدأ برفقة المتطوعين العرب وأبناء القرى المجاورة بحفر الخنادق والدشم العسكرية.
قارب جاد الله اليوم على إتمام عامه المئة، وقد صانت ذاكرته قصص النكبة ورفقاء السلاح والدم، الذين خاض معهم في النكبة معارك عديدة كالقسطل وخربة صبحة وجرون الحمص وتل بيوت أرنونة ودار أحمد علية.

يذكر جاد الله تدريباته برفقة ضباط وجنود مصريين، وقوات من الإخوان المسلمين في مصر بقيادة اليوزباشي محمود عبده والملازم عوض زعزع، ويذكر قصته مع الضابط المصري الشيخ مكاوي قائلا “ذهبت قبيل الغروب برفقة الشيخ مكاوي إلى الخطوط الأمامية أمام مستوطنة راحيل، أطلقوا النار علينا فأصيب الشيخ بجرح بسيط في وجهه فقال لي يا ليتها كانت القاضية وكسبت الشهادة في سبيل الله. بعدها صلى الشيخ المغرب جماعة وذهب مع جنوده لمواجهة العدو، وكانت القاضية فعلا، حيث استشهد وجنوده جميعا”.

صورة شخصية لفوزي القطب الذي ولد وتوفي في دمشق وقاد وحدة النسف والتدمير في تنظيم الجهاد المقدس في حرب 1948 (الجزيرة- أرشيف)
صورة شخصية لفوزي القطب الذي ولد وتوفي في دمشق وقاد وحدة النسف والتدمير في تنظيم الجهاد المقدس في حرب 1948 (الجزيرة- أرشيف)
فزعات المجاهدين
إبان النكبة، تبلور تنظيم الجهاد المقدس، وبرز جيش الإنقاذ وحامية القدس، ودعمهما لاحقا الجيش الأردني. تحت لواء تلك التنظيمات وزع الحسيني القادة والجند في كل قرية وحي بالقدس تحت اسم “الحامية” التي كانت تتكون من “قوة راكدة” وجنود برواتب ثابتة أو حسب نظام “المياومة”، و”قوة متحركة” وهم المتطوعون الذين يأتون عند “النجدات”، أو يجتمعون كلهم في حالات الاستنفار والمعارك.
ويؤكد الباحث شلش أن مصطلح “الفزعات” الفلسطيني كان دارجا، حيث عمد القائد قاسم الريماوي من بلدة بيت ريما شمال غرب رام الله إلى جمع المتطوعين والفزعات للقدس من قريته وقرى رام الله وبيت لحم والخليل.

وبالإضافة إلى تزويد الهيئة العربية العليا للمقاتلين بالسلاح، فقد جلب الحسيني السلاح من صحراء مصر وبقايا الحرب العالمية الثانية هناك مع استحداثه معملا في مصر لصيانة ذلك السلاح.

العدو على الطرف الآخر كان الوكالة اليهودية التي أفرزت على الأرض عصابات صهيونية كالبالماخ والهاغاناة، ومن خلف البحار دعمت بريطانيا الوكالة اليهودية وحاربت الهيئة العربية العليا ومنعتها من أي هامش للتسليح.

مشهد عام لمباني شارع بن يهودا بعد عملية نسف فنادق في الشارع - المصدر أرشيف يتسحاق بن تسفي (الجزيرة- أرشيف)
مشهد عام لمباني شارع بن يهودا بعد عملية نسف فنادق في الشارع – المصدر أرشيف يتسحاق بن تسفي (الجزيرة- أرشيف)
فرقة النسف وحرب المواصلات
ورغم ذلك فإن المقاتلين العرب استطاعوا تفجير مقر الوكالة اليهودية بالقدس، حيث عبأ المنفذ أنطون داوود سيارة بمتفجرات أعدها فوزي القطب وتركها في مقر الوكالة الذي تحول إلى حطام.

كانت الضربة كبيرة لدرجة أن المؤرخ الصهيوني أوري ميلشتاين كتب أن التفجير طيّر الكرسي الخاص برئيس الوكالة اليهودية ديفيد بن غوريون، وأنه لو كان الأخير موجودا في المقر، فهناك احتمال كبير أن إسرائيل لم تكن لتقوم آنذاك.

كان القطب مسؤولا عن فرقة “النسف والتدمير” في تنظيم الجهاد المقدس، والذي نفذ أربع عمليات رئيسة بالقدس كان أبرزها نسف مقر الجريدة الرسمية للوكالة اليهودية، وشارع بن يهودا الذي استهدف مجموعة فنادق كانت تستريح فيها قوة البالماخ، ونسف حي المنتفيوري.

لم يكتف المقاتلون الفلسطينيون والعرب بأسلوب النسف والتدمير بل مارسوا حرب استحكامات يومية واشتباكات حدودية في أحياء المواجهة كالشيخ جراح والثوري، وقرى المواجهة على خط طريق “باب الواد” الذي كان يربط السهل الساحلي بجبال القدس.

وإلى جانب ذلك نجحوا بفرض حصار مطبق على التجمعات اليهودية في القدس، من خلال تفعيل العمليات الحربية المباشرة وحرب المواصلات والسيطرة على الطرق الرئيسية التي كانت تربط بين المركز “تل أبيب” والتجمعات بالقدس ومهاجمة القوافل الصهيونية المارة بها.

يبيّن الباحث شلش أن حرب المواصلات كانت الأسلوب العسكري الأنجح والأبرز وأوقعت خسائر فادحة في صفوف العصابات، وكان أبرزها معارك باب الواد وقافلة هداسا الشيخ جراح، لكنها استمرت 6 أشهر فقط بعد إيجاد الصهاينة طريق بورما الذي لا يمر من مناطق العرب.

يرى شلش أن معركة النبي صمويل شمال غرب القدس كانت من أهم المعارك في النكبة، حيث أفشل المقاومون عملية “يبوسي” وقتلوا فيها نحو 38 صهيونيا. كما تمكنوا من استرجاع قرية بيت اكسا وبدو والنبي صمويل، وحافظوا على قريتي بيت صفافا وصورباهر من السقوط، كما أفشلوا ثلاث معارك عسكرية في اللطرون، وأحبطوا أربع محاولات صهيونية لاحتلال البلدة القديمة في القدس.
جمان أبوعرفة-القدس المحتلة/الجزيرة