الراقصون على الجراح سهير جرادات

الراقصون على الجراح

سهير جرادات

عذرا يا صديقتي فأنا صحافية، وكل ما أسمعه يصبح ملكي، ومن حقي نشره !!

عذرا منكِ، لنشرما اخبرتني إياه عن زيارتكِ الى بيوت شهداء الكوكبة الأخيرة التي زفت إلى السماء، وقبل عيد الاضحى المبارك بأيام، مع مجموعة من سيدات المجتمع ممن لهن أياد بيضاء في العمل العام، لتقديم واجب العزاء ومد يد العون والمساعدة لذويهم ، وحديثك عن ردود أفعال أمهات هؤلاء الشهداء وزوجاتهم واخواتهم.

وكيف وجودكم قد استفز الارملة الشابة لاحد الشهداء، فاخذت تهز صغيرها ابن الثلاثة اعوام من كتفيه ، وهو لا يعي ما يحدث، الا أنه يخزن في اللاوعي، وهي تقول له بصوت أرادت أن يصل الى اعلى المستويات، وبكلمات يجب ان نتوقف جميعنا عندها، نحللها وندرسها ونضع الحلول لها بعد أن نعي مسبباتها، اذ قالت له :” بموتك اذا بتدخل الجيش، بدك تصير راعي غنم ، فاهم !” ، فهذه الكلمات تعبر عن غياب التقدير للشهيد قبل استشهاده، للتعب الذي يلحق به اثناء خدمته مقابل ضآلة الراتب، ولذوي الشهداء من بعده، من خلال القصص التي كان ينقلها لهم عن زملاء سبقوه في الاستشهاد.

أما نظرات تلك الأم التي زفت للتو ابنها شهيدا، وكيف كانت بين الوقت والآخر تميل على احدى السيدات العمانيات لتسألها : ” بالله عليك ، شو هو اسم المول الذي كان من المفترض الارهابيين بدهم يفجروه ، لولا ابني الذي استشهد ليمنعهم من ذلك !؟” كم كانت نظرات هذه الام اقسى من كلماتهم التي تذكرنا بأن ما نقدمه للشهيد لا يتناسب مع مكانته العظيمة .

من المؤكد أن النساء أجرأ في القول، وعاطفتهن جعلتهن أكثر قدرة على التعبير عن واقع الحال دون تنميق أو خجل، حيث إن جرحهم يطغى على كل عبارات اللباقة، وكلنا نذكر تلك الأم التي قدمت ولدها شهيدا في حادثة الركبان، كيف بقيت تحتضن ما تبقى لها من ابنها، ألا وهو “البسطار”، الذي تسلمته بعد استشهاده، وهي تلقننا درسا بأننا جميعا بعد أن نقدم واجب العزاء سنذهب ونختفي بعد التقاط الصور، ولن يبقى لها سوى هذا “البسطار”، الذي سيذكرها بفرح ابنها عندما تسلمه بعد تجنيده، وبقي معه الى أن تركه بعد أن قام بواجبه العسكري على أكمل وجه ، ليترك لذويه رسالة مفادها : أنا قمت بواجبي، وأترك “بسطاري” ليرتديه محارب آخر يكمل الواجب، وعلى أصحاب القرار أن يقوموا بواجبهم نحونا ” ، فهذا “البسطار” سيبقى يذكرنا بأننا مهما قدمنا من التقدير والوفاء لهؤلاء الشهداء، فلن يصل إلى عظمة ما يقدمونه ، خاصة وأنه ما زال في الذاكرة صورة ذلك الشيك الصادر في الاول من شهر آب كعيدية من صندوق شهداء القوات المسلحة لذوي الشهداء، ومقداره خمسون دينارا أردنيا فقط لا غير !!

عذرا لكل أبناء الشهداء على تلك الأخبار المؤذية التي تناقلتها بعض وسائل الاعلام عن تلك المكرمة التي تقدمت بها احدى المدارس لابن أحد الشهداء كون والده لم يسعفه القدر على اتمام تسجيله ، لتقدم مجانا تسجيل ابنه لمدة ثلاث سنوات وهي بعمر الصفوف التي تدرسها، والاجدر أن تكون دراسة ابن الشهيد حق مصان بالقانون وبافضل المدارس ، فهو الاولى والاحق من بنات ذلك المسؤول الذي يقدم خدماته تحت المكيف ويرتدي أغلى ماركات البدلات ، ويركب أفخم أنواع السيارات واغلاها ، واحق من ابناء المسؤولين الذين يتلقون الدراسة في المدارس الخاصة على حسابنا ، ويكملون دراستهم الجامعية والدراسات العليا في أرقى الجامعات العالمية ، وكل ذلك على نفقتنا نحن الشعب الذي نقدم الارواح والاخلاص والوفاء، حتى يتمتع اصحاب الحظوة بالاعطيات والهبات ، وحتى تتاح لهم الفرصة للرقص على جراح الاوفياءالمخلصين.

عذرا منك يا إلياس أيها البطل الصغير، يا ابن الشهيد معاذ الحويطي ، على الجرح الذي سببه لك الاعلام ، فكان الاجدى من وزارة التربية والتعليم التي تعنى بالتربية قبل التعليم ان تقوم بخطوة رائدة من خلال توجيه مدارسها بأن تكون الرسالة الصباحية في اليوم الدراسي الاول ، وعبر الاذاعة المدرسية عن الشهيد وتضحياته، وكل ما تحمله الشهادة من معان ، وتتلى هذه الرسالة الصباحية بعد المناداة على أبناء الشهداء في المدارس ، بحيث يتم تكريمهم بالوقوف أمام زملائهم الطلبة ، ليتعرفوا عليهم ، وليستشعروا عظمة ما قدمه اولياء امورهم من عمل عظيم ، ولترسخ هذه الرسالة التربوية في أذهان هذه الاجيال ، وحتى يشعر ابن الشهيد، واخ الشهيد بالفخر لما قدمه والده وشقيقه .

لا أن نترك الساحة للراقصين على الجراح بأن يمدوا مغلفا يحتوي على مبلغ زهيد من المال وكثيرا من الجرح لابن شهيد، الاجدى تقديره لا تدمير نفسيته ، وتوجيه الاسئلة الاعلامية المستفزة لطفل حملت تقاسيم وجهه جدية ورجولة غابت عن الكثيرين، لتأتي اجابة اليتيم الصغيرعن الاسئلة المستفزة ، البعيدة عن الانسانية : ” آه ” ، والتي عبرت عن ألمه ، وهي بعيدة كل البعد عن اجابة لذلك السؤال السطحي : مبسوط !. .. عذرا منك يا ابن البطل، ومن جميع رفاقك في اليتم بعد استشهاد اولياء اموركم .

حتى لا نتحول الى راقصين على جراح الشهداء الذين قضوا دفاعا عن الوطن لينعم بالأمن والأمان، وحفاظا علينا وعلى أرواحنا ،علينا أن نقر بأن حفظ كرامة أهل الشهيد من كرامة الشهيد ، وهذا لا يكون إلا بوضع قوانين وأنظمة محكمة يتم من خلالها صون كرامة ذوي الشهداء بمنحهم حقوقا مادية أو معنوية، ينص عليها في القانون .

لا يجوز أن نبخل على من لم يبخلوا علينا وقدموا أرواحهم وحياتهم ، من أجل أن نحيا ونعيش بأمن وسلام ، وأن يكون ما يقدم لهم هو أقل واجب لروح افتدت الأوطان ، وأمن مواطنيها ، وفي الوقت ذاته لا يجوز أن نمنَّ على أهلهم وذويهم ، ونستغل ضعفهم، بشكرنا وتقديرنا لتضحية ابنائهم بارواحهم من اجلنا!!

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار

Jaradat63@yahoo.com