الصفحة الأخيرة..
أحمد حسن الزعبي
حلمت فجر هذ اليوم أني أحفر في الأرض مقدار شبرٍ،وأضع قلمي به،ثم غطيته بترابٍ ناعم ووضعت وردة دحنون فوق رأس” ممحاته” و قلت له ارقد هنا بسلام،في ذكرى حرية الصحافة..ففزعت.
**
قبل أكثر من عشرين سنة، عندما كنت أصعد بباصات الرمثا عمّان بحثاً عن عمل في المحاسبة ،شهادتي الجامعية طازجة ، وأحلامي بوسع الكون ،كنت أختار الجلوس بالشق الأيمن من الباص ، أختار كرسياً منفرداً لأتحكّم بكمية الهواء القادم من النافذة وبحركة الستارة التي لا لون لها..لكن هذا ليس كل شيء فالشق الأيسر من الباص يحمل نفس المواصفات ، كنت أختار جلوسي بعناية لأرى صحيفة الرأي في كل بهائها في ذلك الوقت..عندما كان يمرّ الباص بشارع الصحافة ويقول الكونتترول..الدستور حدا نازل؟…الرأي؟..كنت أنظر في عينيه..فيقول لي :نازل؟..ثم أهزّ رأسي المثقل بالتمنّي والخيبة “لا”..
شاءت الأقدار أن ينضج قلمي ،أو ربما هي دعوة أمي ، أو هو الحب المجنون ،صرت أحد كتّابها..لم يكن لي مكتب في الجريدة،أو حتى “محطّ رجل”، كان لي زاوية في الصفحة الأخيرة ، وصندوق يوضع فيه بريدي هذا كل ما أملكه في الجريدة ، اذا أراد أحد القراء مقابلتي آخذه الى مقهى قريب، لم أكن أجلس في غرف التحرير ،ولا يعرفني كثير من رؤساء الأقسام والمدراء في الصحيفة ، كما لم يكن يحبّني الكتّاب الكبار ودائماً يحاولون أن ينسوا اسمي عند اللقاء في الممرات ،لذا كان جلوسي في غرف الموظفين الصغار والإداريين البسطاء الذين كانوا يفرحون لزيارتهم..كنت أقاتل منذ اللحظة الأولى أن تكون الصحافة صحافة وطن لا صحافة حكومات..لأن الوطن باقٍ والحكومات راحلة ، الوطن باقٍ والأشخاص يرحلون..لكنّهم كانوا يصرّون الاّ ان نكون صحافة الرئيس المناوب..بقيت الصوت المعارض للسياسات المنتمي للبلد ، حاولت أن أوصل بقلم الرصاص رسالة..اذا كنت معارضاَ للسياسة هذا لا يعني أني مخرّب أو كاره أو بغيض، أنا وطني إين وطني أبن هذا البلد ، ما أكتبه من رأي ليتعافى بلدي لا لأخفي مرضه عن أقرب الناس اليه..فمنعت من النشر كل المقالات التي كنت أنتقد فيها الفساد،والسياسات الاقتصادية الفاشلة ،وضياع مقدرات الدولة..والمحاباة، والنفاق ،والتسحيج…الى أن أصبح صرير القلم يزعجهم جداً..فصمّوا آذانهم..وأوقفت عن الكتابة فترتين طويلتين..الأولى في رمضان “الملقي” حيث امتد إيقافي أربعة شهور كاملة …والمرة الثانية منذ إضراب المعلّمين2019 وحتى لحظة كتابة هذا المقال أي ثمانية شهور حتى الآن..
أنظر هذه الأيام في عيني جريدتي كما أنظر في عيني وطني الحزين ، قاتلت ما استطعت لأجلكما ،تحمّلت الاتهام والايقاف والتخوين وكنت أقول فداكما ، اذا تعافى أي منكما بالضرورة هو تعافي الآخر بالنسبة لي ..
أنا كاتب ولا أستطيع الا أن أكون كاتباً…قوامي قوام قلم ،كلما بحّ صوتي الرصاصي على بياض الأرض..شحذته “بمبراة” المواقف والمبادئ والرسالة…لن يرعبني أو يحنيني ثقل الممحاة فوق رأسي..فساقي الوحيدة ستظل تكتب ، تحرث السطور، وتحرس الثغور..وتغنّي لورق المطابع النائم في جوعه…على هذه الأرض ما يستحق الكتابة…سأظل أكتب وأكتب وأكتب..حتى تطوى الصفحة الأخيرة من عمري..
أحمد حسن الزعبي
[email protected]