لعل من أكثر البرامج الإعلامية شيوعاً وإقبالاً جماهيرياً في الشرق والغرب في هذا العصر، هي تلك البرامج التي لها علاقة مباشرة بحياتنا، وربما بأمورنا القريبة بصورة شخصية، وأعني بذلك برامج الواقع التي تتصل بمفردات حياتنا بصورة مباشرة، بما في هذا الواقع من تفصيلات شديدة القرب من محيطنا المحلي؛ حين يكون أبطال هذه الأحداث هم أهلنا وجيراننا ومن نتعامل معهم في كل حين، وبحيث يغدون جزءا لا يتجزأ من كياناتنا الاجتماعية بل النفسية، همومنا هي همومهم وتطلعاتنا هي تطلعاتهم وأفراحنا هي أفراحهم وبالتأكيد؛ فإن أحزاننا هي أحزانهم. وأما الأماكن التي تجري فيها أحداث هذه البرامج؛ فهي أحياؤنا؛ بل بيوتنا أو تلك تلاصقها أوتجاورها وتماثلها شكلاً عمرانيا ومضموناً أسريا وإنسانياً.
وقد أسهم العصر الحديث، الذي هيمنت عليه وسائل الاتصال، في زيادة معرفتنا بمن هم في محيطنا وبمن هم خارج هذا المحيط. بل إن من مآثر هذه الوسائل أنها زادت من معرفتنا لنفوسنا وكشفت حقائق محيطنا البشري والاجتماعي وقربت الأماكن وجعلت مايجوس في النفوس قاسما مشتركا بين الجميع.
وقد رأيت أن أستهل هذه المقدمة التي أكرمني بطلب إعدادها صديقي الصحفي المتمرس والكاتب الحصيف عدنان نصار، لكتابه: شارع الرشيد: سيرة ومسيرة، بهذه الإشارة حول برامج الواقع المباشر، للصلة المباشرة لمادة هذا الكتاب بحاضرنا وبماضينا والأرجح بمستقبل أيامنا. وفوق هذا لما أرى أنه واجب إنساني تجاه هذا الصديق الذي أقدر حجم مآثره على مجتمعه المحلي وعلى المهنة في إربد من جهة، ولِما رأيت في هذه المادة التي دأب على نشرها تباعا على صفحته في (الفيسبوك) من سجل نادر لمكان طالما شهد أحلامي، وطالما تشكلت لدي صور المستقبل وأنا أذرع جانبيه جيئة وذهابا إلى مدرسة حمزة بن عبد المطلب خلال المرحلة الإعدادية…. كل يوم طيلة سنوات ثلاث من السنين الأغلى في عمر الإنسان.
اتخذ عدنان- إذن – من شارع الرشيد بؤرة انطلق منها لتقديم صورة معمقة للبشر والحجر لهذا الشارع الذي يمتد حوالي كيلومترين، وفوق ذلك صورة أخرى أوسع بل بانورامية لإربد بدءاً من الستينيات، وحتى أيامنا هذه.
إنه جهد من نوع خاص، أن تقدم مدينة من خلال شارع فحسب، ومن خلال نماذج مختارة من أناسه، بل قل من نماذجه البشرية منطلقا – في الأساس- من السمة الأبرز التي نُعرف بها بعضنا بعضاً، أعني المهنة. وهكذا فإننا إزاء نماذج إنسانية فنية نابضة بالحيوية بأكثر من مما تتيحه الأنماط البشرية المكررة، والفرق كبير بين النموذج والنمط؛ فالنموذج – مثلا- يكتسب سمة عامة كالمهنة مثلا، ولكنه حتى يكتسب أهلية النمذجة فلابد أن يتفرد بسمات وملامح وتفصيلات خاصة به ، في حين أن النمط يتكرر بصورته وسماته البشرية بآلية جامدة وثابتة ، وبطبيعة الحال فإن هذا يتوقف على براعة القلم الذي يرسم الشخصية حتى لو جاءت من صفحة أو صفحتين على الأكثر، وكمثال على هذا فإن عدنان نصار يقدم شخصين كل منهما صاحب مطعم شعبي، ولكن كل شخصية منهما تحمل سمات إنسانية مختلفة عن سمات الشخصية الأخرى. في حين لو قدم نفس الشخصين بطريقة نمطية لأعفى الفوارق بينهما ليبدوا شخصية واحدة بالملامح المكررة نفسها.
ومن خلال هذه النماذج تتسع رؤية الكاتب لتطل على مختلف فئات الطبقة المتوسطة ذات الطابع الشعبي، وهو طابع ساعدت سعة شارع الرشيد وتفريعاته المتشعبة نحو الجهات الأربع وحاراته المتداخلة في الجهتين الشرقية والغربية وامتدادته الشمالية والجنوبية والمتقاطعة مع شوارع أخرى على صهرأناس هذه المنطقة في بوتقه واحدة ضمن مايسمى بسلطة المكان التي نجحت في جعل السكان عائلة واحدة.
إنها الطبقة الوسطى، وتسمى بالمفردات الأكاديمية بالبرجوزية الصغيرة أو بفئة المساتير، والصِغر هنا بالنفوذ والتأثير وضآلة المقدرات فحسب، وليس بامتلاك مقدرات المجتمع وبسط النفوذ الذي هو من نصيب البرجوازية الكبيرة (فئة المياسير) ذات العدد الأقل. لم يقترب قلم عدنان نصار إذن من هذه الفئة ولم تَحُمْ حولها رؤيته لأنها – أي فئة المياسير- ببساطة تسكن خارج شارع الرشيد، وهي الفئة ذات الطابع المديني الخالص، ولم يعرفها مكان في إربد من مثل شارع الرشيد الشعبي الذي بالكاد يلامس مستوى المجتمع الانتقالي في تحوله من مجتمع القرية أو البلدة إلى مجتمع المدينة.
إن أبرز ما يقدمه عدنان نصار إذن، مجتمع متنوع السمات متعدد المهن أوسبل التقاط الرزق، ولكنه متجانس في سعيه للعيش للمشترك. صحيح أن الحيز المكاني ضيق ولكن البعد الاجتماعي والأفق الإنساني يكاد يستوعب آمال الدنيا وآلامها، وأفراح البشر وإحباطاتهم، وسعادتهم وقنوطهم. ففي النتيجة يتوحد الإنسان مع المكان الزمان كائناً متكاملاً في شارع واحد، يكاد يذكرنا بزقاق المدق.
وبذلك فقد لا نجازف كثيراً إذا ما زعمنا أن هذا العمل فيه من الروح الروائية دعامة أساسية بات العديد من الأعمال الروائية، الواقعية بصورة خاصة، يتكئ عليها وتكاد تسمه بطابعها الخاص، أعني ركيزة المكان؛ فالمكان في نصوص عدنان نصار قاسم مشترك بين كل هذه النصوص وشخوصها، وقد ساعدتنا صور أناس الشارع التي تزين هذا الكتاب، بأزيائهم وملامحهم وهيئاتهم وأطوارهم الزمنية المختلفة، على تمثل صورة المكان بمراحله التاريخية المتوالية.
ومن بين ما ينجزه الكتاب – على بساطته – القيمة التوثيقية؛ فلا شك أن الحاجة ستظل قائمة لمثل هذه الجهود الطيبة بالنسبة لمؤرخي المدينة. بل إن بعض هذه الشخوص قد يحمل بذرة يمكن أن يستوحيها قاص أو روائي ليبني عليها أخيلته الفنية فيحولها إلى شخصيات درامية، ويجعل شارع الرشيد -من ثم- فضاء روائيا أو قصصيا أو حتى مسرحيا لعمل إبداعي. وكثير من المبدعين يتوقون للعثور على مثل هذه البذور لتأثيثها وإنضاجها إلى مستوى النموذج الذي يحقق شروط النمذجة الفنية بصورة أو أو بأخرى.
ويسجل للأستاذ عدنان – كذلك – شمولية المادة التي يخوض فيها؛ فهي لا تقتصر على الرجال فحسب. بل تمتد لتشمل ذلك النموذج النسوي الذي ينطبق عليه الوصف المأثور للسيدة ذات الحضور البهي: أخت الرجال، ، بل يمكن القول إن حضور بعض تلك السيدات هنا ليس حضور ربات بيوت تلتزم جدران المنزل فحسب – مع جلال المعنى بطبيعة الحال- بل حضور السيدة المتفاعلة مع وسطها الاجتماعي فتراها دون حرج في المجالس المختلطة والأماكن العامة، وربما لا يقل تأثيرها في – في الحل والربط – عن تأثير الرجل.
وبعد…. نرجو أن تنطوي هذه الخطوة الريادية -على مستوى إربد- على حافز لآخرين، ممن يمتلكون شغفا بالمكان مقرونا بقدرات كتابية تمكنهم من أن يلتقطوا شوارد الحكايات، مما تجود به ذاكرة من لا يمتلكون القدرات الكتابية ليسجلوا صورهم الفنية أو التقريرية عن إنسان هذه المدينة ونماذجها البشرية (الخام) قبل أن تغيب هذه الذكريات وتختفي تلك النماذج وتُطوى في غياهب النسيان؛ فإن كل ما يمكن أن يُكتب في هذا الحقل البكر له قيمة وثيقة تاريخية، يمكن أن تتعاظم إذا ماجرى تطويرها ومن ثم استثمارها في عمل علمي منهجي أو جهد إبداعي أدبي.
بقي أن أشير إلى أن الأستاذ عدنان نصار أظهر مهارة كتابية وتصويرية قادرة على رسم ما يسمى في الحقل الإعلامي “بالصورة القلمية” بأبعادها الإنسانية وبشروطها الصحفية التي طالما تمرس فيها وخبرها عدنان، وهي، أي هذه الصور القلمية، جزء من تاريخنا بل مكون مهم من الذاكرة الوطنية، كما أن لها – كذلك – بشكل أو بآخر، حيزًا في ضميرنا الوطني الذي يتحفز ويتوثب عند التأمل في معالم هذه الصور أو القراءة عن هذه النماذج.