68
موسم الحصاد
بقلم الباحث في التراث الشعبي الدكتور أحمد شريف الزعبي
حان وقت حصاد القمح في فصل الصيف ، وتهيأ الفلاحون لحصاده، سنوا المناجل، وتفقدوا الحور (جمع حورة، وهي قطعة سميكة من القماش، تقي صدر وبطن الحصاد من الشوك وسنابل القمح)، وكذلك المصبعانيات ( مفردها مصبعانية، وهي تقي الخنصر من سيقان القمح والشوك)، كما هيأوا الملابس القديمة لاستعمالها في عملية الحصاد.
كانت قطع الأراضي متقاربة، فلا اقطاعيات في القرى، وكان البعض يقوم بزراعة أرضه ويعمل بها، والبعض يستأجر أرض الآخرين، أو يزرعها على نصف المحصول. وكانت إحدى عائلات جيراننا يعملون عند أحدهم، وقال ابنهم الذي هو في مثل سني : إنني أكسب النقود وأوفرها وسأنفقها براحتي، ونحن محظوظون أن هذه الأيام أيام ندى.
لمعت برأسي فكرة أن أقوم بالعمل لأوفر النقود وأتصرف بها على مزاجي، ذهبت إلى والديّ وأخبرتهم أني سأذهب للحصيدة يوم غدٍ، رفض أبي الفكرة، وقال : لو الحصيدة سهلة لما أعطينا أرضنا لغيرنا على نصف الإنتاج، أصريت على موقفي، حتى قالت أمي : حسناً، إذهب وجرّب الحصيدة.
ذهبت من فوري لجيراننا وأخبرتهم بعزمي للذهاب معهم يوم غدٍ للحصيدة.
سر صديقي محمود، وقالت أمه : سيوقظك محمود مع طلوع الفجر.
جهزت ملابس العمل، وأعطاني أبي إحدى شوره القديمة لأضعها على رأسي لتقيني من حرارة الشمس.
نمت وأنا على استعدادٍ تامٍ للعمل، الذي سيكسبني النقود، وأتصرف بها على راحتي، فأذهب إلى إربد وأدخل السينما وآكل السندويش وأشرب الكازوز، وأشعر باستقلالية تامة.
أيقظني محمود فنهضت وارتديت ملابس العمل وانطلقت معهم إلى الحقل الذي يبعد حوالي الكيلو متر، وبدأنا بالعمل فور وصولنا، رأيت شروق الشمس، فصرت أتغزل بها، فنهرني وكيل المعلم قائلاً : الحصاد أولى من غزلك بالشمس.
بدأ خنصري يؤلمني، ونقلت ذلك إلى محمود الذي أعطاني مصبعانيته الإحتياط، كانت سيقان القمح طويلة فأخذت تضرب وجهي وتخرمشه، فعملي كان زحفا ً وليس بالمنجل أو الحاشوشة، اشتدت حرارة الشمس، وسمعت أحد الحصادين واسمه سالم يغني :
منجلي يامن جلاه
راح للصايغ جلاه
ماجلاه إلا بعلبة
ريت هالعلبة عزاه
فيرد عليه حمدان :
منجلي يابو الخراخش
منجلي بالزرع طافش
منجلي بولاد رن
مابقاله غير سن
ويغني سعيد :
منجلي يابو رزة
وشو جابك من غزة
فيكمل سالم :
جابني اللي جابني
جابني حب البنات
والخدود الناعمات
والحواجب مقرونات
ويكمل سعيد :
واخو سعدة يمسعود
وحط القربة على العود
يسكت المغنون ونسمع من حقلٍ مجاور أحد الحصادين وهو يغني:
حزين طرّاد الهوى
لاصار مهو نيلاه
مزيونةٍ عند الفريق
يويلي سود عيونها
وارهنت رمحي والفرس
عيّو هلا يعطونها
وتدور محاورة بين الشّقّاق ( وهوالحصاد الذي يحدد المسافة للحصادين) ومابين الجحاش الذي يكون من جهة الزرع المحصود، فيقول الجحاش :
معلش المرة معلش
والشقة دارت عالجحشة
فيثور الجحاش ويقول :
منحقة النوبة منحقة
والجحشة دارت عالشقة
ويتدخل أحد الحصادين ويقول :
وابعد عنها ياشقاق
وأم قذيلة ماهي لك
وأم قذيلة للجحاش
وانت عنها تنحاش
يتوتر الجو فنسمع أحد العائدين يغني :
يازريف الطول ويمشي لشمال
يللي طولك مع الهوا مال
ساق الله يالمحبوب يومنا جُهال
يومنا في الدار نواجه بعضنا
فيرد عليه سالم :
يازريف الطول والسن الضحوك
يللي رابي بدلال أمك وابوك
جاني الخبر أنهم خطبوك
راسي مني شاب والظهر انحنى
ويغني العائد :
يازريف الطول عاعين العلق
والعنق شبرين هيك الله خلق
حلوة مليحة لو لبست خلق
وش حال لو تلبس هدوم مردنة
فيرد عليه سالم :
يازريف الطول وياحمدة العلي
الله يعين اللي بهواكو مبتلي
لبيع الدار وجميل اهلي
كرمالك يم العيون الذابلة
يضحك الجميع، ونسمع من البعيد أحدهم يغني على لحن ااهجيني:
لو الحصيدة ركب حنتور
لحرّم ركب الحناتيري
تاري الحصيدة وجع ازرور
من شوفتي للترف زعلاني
ياشمسنا اليوم ماحرّك
تعب الترف والعرق سالي
وتقترب إحدى الغمارات فيقول لها حمدان : هاظا اشمالك.
فترد عليه بابتسامةٍ خجلى وتقول:ابشر بجوز ديوك.
ويعود سالم للغناء عندما يرى إحدى اللقطات الجميلات فيقول :
ياشوفتن شفتها تلقط بزرع الدير
والسر اللي بيننا وش وصله للغير
وانكان مافي ورق
لكتب عجناح الطير
وانكان مافي حبر هلن ياعنية
ويتابع :
جفرا ويا هالربع تلقط بحقلتنا
غير الضحك واللعب ياخوي منطتنا
ويومن خلص الزرع راحت وتركتنا
كله ضحك ولعب علحى العزابية
صارت الساعة العاشرة، اشتدت حرارة الشمس، وقد أخذ مني التعب مأخذه، جاء صاحب العمل وأخذ يحث العمال على الإسراع في الحصيدة، فيرد أحدهم عليه قائلاً :
يامعلم لاتخاف
حصيدة عبو نظاف
فيقول المعلم :
والنبي صلوا عليه
فيرد عليه سالم :
يامعلم حلّنا لانقيقب كلنا
فيقول له المعلم :
وإن قيقبتوا كلكوا والعصا بتلمكوا
والعصاة عصاة لوز
كل هواة بتحوز حوز
فيضحك الجميع.
أما أنا فإن التعب أخذ مني مأخذه، ولاحظ المعلم، واستفسر من ذلك الغلام؟ قالوا له : إنه ابن فلان. ابتسم وقال : إن والده أعطى أرضه لعلي المفلح على النصف، فكيف يسمح لإبنه العمل بهذه الظروف؟ قالوا له إنها رغبته، ليأخذ استقلاليته. هز رأسه وقال لي : أترك العمل وأعطيك أجرتك كاملة. رفضت الفكرة، لم يعلق وذهب لشأنه.
وبعد قليل جاء الفطور، تحلق الذكور في مكان وابتعدت الغمارات واللقاطات عنا ليأخذن راحتهن بعيداً عن الرجال.
كان الفطور خبزاً وبندور وخيار وشنينة، وتعاون سالم وسعيد بعمل ابريق شايٍ كبير، افطرنا وحمدنا الله وشربنا الشاي، وعدنا للحصيدة، صارت الساعة الحادية عشرة، اشتدت حرارة الشمس، وتعاون البرغش مع غبار السنابل علينا، فازداد التعب بل صار إرهاقاً، وكانت الفرحة الكبيرة عندما أعلن وكيل المعلم إنتهاء العمل، أردفني سعيد خلفه على حماره، وقد أشفق علي، وأخذ يمازحتي قائلاً :
كيف وجدت الحصيدة ياأحمد؟
قلت له : كنت أظن أنه نهايتي.
وهل ستعود إليها؟ قال لي.
قلت ومن دون تردد : لن أعود لهذا العمل الشاق .
قال لي : وكيف ستحقق أحلامك وطموحاتك؟ قلت له : في غير هذا المجال بإذن الله.
وضعني أمام بيتنا، ولم أسلم من توبيخ أبي وأمي وقد رأياني بتلك الحالة التعيسة .