(رحلةُ اللاعودة) قصة قصيرة للطالبة سلمى محمد ملكاوي/ الصف العاشر

كنانة نيوز –

شؤون ثقافية

رحلةُ اللاعودة

بقلم : الطالبة سلمى محمد ملكاوي -الصف العاشر

مدرسة أم قيس الثانوية للبنات

بإشراف المعلّمة الفاضلة: عبير براسنة

——————————
رحلةُ اللاعودة

بصيصُ نورٍ اخترقَ تلك النافذة الصغيرة ، يلُامسُ وجنَتيَ جسد يونس الذي يكاد يتجمدُ بردًا بملابسه الخفيفة الرثةَّ و قدميه الحافيتيَن ، يحاول أن يجعلَ تلك الأشعة تتوزع على بدنِه حتى يشعرَ بشيءٍ من الدفءِ ، و كلما رفَعَ رأسَهُ أزاحَ عينََيه جانبًا وكأنَّ النورَ يؤذيهما .

حلقَّ عينيه بهذا المكان ، لا يعَلمُ وقتاً ولا يعلمُ ما هذه الجُدران المُتآكلة و السقف الآيلِ للسقوط ولا يعلم كيف وصل و ارتمى على هذه الأرض الموحِلة “هل كنت في عالمٍ آخر ؟ هل هذه حياة اخرى ؟ ” ، بدأ شريط ذكرياته يعود شيئاً فشيئاً ، كيف اقنع والدته بأن الحياة هناك في فرنسا بلد العطور والازياء هي المكان الذي سيعملُ فيه و سوف تلحقه أمه و اخوته الصغار بعد موت والدِه بقصف منزلهم في الريفِ السوري.

من أين يبدأ ؟ و كيف يبدأ ؟ وهل للحلم من سبيل …؟
استعاد بعضًا من قوته شيئاً فشيئاً و نهضَ في شبه غرفة ربما وجده أحدهم و وضعه فيها و ربما زحف إليها دون أن يستذكر جيًدًاً ما الذي حدث المهم انه على قيد الحياة ” المهم انني على قيد الحياة ” هكذا خاطب يونس نفسه بصمت.

نهضَ بسرعةٍ و استذكرَ كيف سافرَ إلى مصرَ ثم ليبيا بعد أن جمعت له والدته مبلغًا من المال عسى أن تكون فاتحة خير و حياة جديدة لهم جميعً ا ، ذهب وقتها إلى ) ابي قاسم ( ذلك الرجل الذي وعدهم بمركب ينقلهم هو و مجموعة من الشباب إلى
)مارسيليا( إحدى المدن الفرنسية على شاطئ البحر المتوسط.

وصل يونس ليبيا و تجمع مع من يريدون السفر في قاربٍ يكاد يتسع لهم ، شبابٌ بعمر الورد يشقون البحر من أجل حياةٍ أفضل ، و شاءت الأقدارُ أن يقتربوا من سواحل مدينة الأحلام لكن المركب لم يكُمل رحلته على خير و انقلب دون سابقِ إنذار.

حاربَ يونس الحياة و قاوم البحر و الحظ السيّء بعدما كان يعُاني مَرارة الحرب التي تركها خلفَه ، و بكل قوة يملكها شق الماء و شق عناء الحياة و وصل إلى الشاطئ و هناك فقد وعيه و استيقظ بين هذه الجدران.

خرج و إذ به على ذات الشاطئ ، لم يكن هناك أحد من رفاقهِ ، و من حُسن حظه أنه يجيد الفرنسية التي كانت لغة إجبارية في المدارس السورية . نفض غبار الذكريات و حاول أن يبدأ ، وجد ) كُشكًا ( صغيرا تكلم مع رجلٍ بالفرنسية كان يقفُ أمامه وسأله عن اسم المنطقة و عن إمكانيةِ ايجادِ عملٍ ولو بَسيط فلاحظ من لغة الرجل الفرنسية الضعيفة أنه عَربيٌّ مصريٌّ .

كانت هذه فسحة الأمل الوحيدة فإن لم يحصل على عمل فربما قد حصل على رفيق ، بسرعة تبددت شكوك يونس عندما أخبره أنه عربي و بدا على ذلك الرجل الذي يُدعى جابر ملامح الطيبة و حب مساعدة الآخرين .

أخبر جابرُ يونس أنه وجده قبل يومين ملقًى على الشاطئ فسحبه ووضعه في تلك الغرفةِ ولملم بعض أوراقه الثبوتية حيثُ كان يونس يحتفظُ بها داخلَ محفظةٍ بلاستيكية لم يطَلها الماءُ كثيرًا و قد جففها جابر واحتفظ بها .

لم يبد على جابر – من خلال حديثه مع يونس – أن له مدة طويلة في مارسيليا ، بدأت رحلتهما الشاقة من هنا.

عمل يونس في خدمة رواد الشاطىء وعمل جابر في الكشك الذي يصنع المشروبات الساخنة.

لم يغادرا )مارسيليا( حتى جمعا مبلغا من المال ، ولكن حلم يونس كان مدينة
)باريس( وشوارعها الطويلة وازيائها الفارهة وعطورها الفواحة، وفي ذات الوقت كان يشتد حرقة كل يوم على فراق أمه وأخوته سيما انه لا يعلم ماذا حل بهم بعد رحيله.

غادرا الشاطئ إلى )باريس( ، لكنها لم تكن أرضًا مفروشةً بأزهار الفاوانيا الفرنسية المعروفة.

ثلاث سنوات هدَّ الشوق فيها يونس ، لم يرَ نفسه إلا أمام السفارة السورية في
)باريس( ، شيءٌ من عبق بلاده ، حلمٌ بصوت أمه فقط الان صوتها لا شيء آخر .

دخلَ و تكلم العربية والفرنسية معًا فلسانهُ يتلَعثم بكليهما . دخلَ يسترق السمع لصَوتٍ عربي لكنها لغة البلاد و الساسَة ، هناك يجيدون الفرنسية لكن ملامحهم عربية شامية سورية.

قدَّم أوراقهُ الثبوتية ودخل إلى المكتب الذي يرُيد وشرح مشكلته للشخصِ المسؤول ،كان انسان لطيفًا مضيافًا قدَّم له القهوة وكأسًا من العصير حتى يُخففَ ذلك القلق الذي بدا على يونس والذي ظهر من طَقطقة أصابع يديه و اهتزاز قدميه ، اخبره المسؤول انه سيُساعده في تحصيلِ اتصالٍ هاتفي مع والدته عن طريق الإتصال لاقرب مؤسسة حكومية لمكان سكنها.

لم يكن لدى يونس هاتف فأخبره الموظف أنَّ باستطاعتِه العودة بعد اسبوع …
اسبوع ؟! لا بأس قال يونس صبرت سنواتٍ وآملُ أن تكون عائلتي بخير .

عاد يونس وقد ترَتبََّ أمر الإتصال :
” مرحبًا أمي” عيونه تكاد تفيضُ بل فاضت بكل ما تحويه من دمع ، أعاد السؤال :
أنت أمي ؟
“نعم نعم يونس حبيبي ولدي أنا أمك وأنا بخير”
قال يونس : وأنا بأحسن حالٍ يا أمي ، سنلتقي هنا قريبا أعدك غاليتي سنجتمع . لم تكن مدة الإتصال طويلةً لكنها أزاحت حملًا ثقيلًا أعاق يونس عن المسير طويلًا ، رَجع كما الطائر يسيرُ كما البرق ، احتضن جابر وأخبره أنَّ طريق اللّاعودة ستكونُ أرض الله الواسعة عندما يحضر أمه و عائلته .