لعبة التناوب الفنّي في رواية “الأقدام السوداء” للروائي محمد فايز حجازي/ بقلم الأديب والناقد العراقي إبراهيم رسول

كنانة نيوز –

شؤون ثقافية –

لعبة التناوب الفنّي في رواية الأقدام السوداء للروائي محمد فايز حجازي

بقلم الأديب والناقد العراقي الأستاذ إبراهيم رسول

فتح الصورة

روايةٌ قريبةٌ من أنْ تُدعى أو تصنّف على أنّها ملحمة سردية من حيث البناء التقني, فهي تشتغلُ على عوالم عديدة, فالشخصياتُ كثيرة وكلّها تؤدي الوظيفة المنوطة بها, لأنَّ لكلّ شخصية وظيفة تفاعلية رسمها أو خصصها المبدع لها, وهذه الشخصياتُ تؤدي الوظائف التفاعلية بصورةٍ إيجابيةٍ, تكاد أيضًا أن تكون الرّوايةَ سجلًّا يدوّن حوادث تاريخية بعقليةٍ إبداعيةٍ, هذا الإبداعُ الفنّي جعل من قراءة التاريخ أو حوادث التاريخ مُشوّقة لمعرفةِ أشياء عن الماضي القريب أو البعيد حتّى.
الأقدام السوداء رواية صادرة عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع في مصر بطبعتها الأولى في سنة 2023 , التي سنقرأها بهذه الطبعة, نجد أنّ ثمةَ جملة أسفل العنوان الأصلي, وهي جملةٌ لا يمكن أن يتجاوزها القارئ ما لمْ يتأمل دِلالتها التي يروم المبدع إيصالها إلى المتلقي, تقاطعات العشق والجدل, هي الجملةُ التي نقرأها بعد العنوان لتأتي الأسئلة تِباعًا , وهي ماذا ستحكي هذه الرّواية؟ قد يكون التصوّر الأوّل أنّها ستعنى بحكايات أهل الدجل المزيفين أو أهل العشق الحقيقين, لكن الرّواية تحملُ خطابًا جوّانيًا, هذا الخطابُ ينفتح على أبوابٍ تأويليةٍ كثيرةٍ, فالخطابُ السرديُ في هذه الرّواية حمّال أوجه كثيرة وكثرة الوجوه التأويلية ومقبوليتها يجعل من الرّواية غير مستهلكة أو قابلة لقراءات كثيرة في أوقات متباينة.
يستدعي المبدع التاريخ ويجرّه إلى الحاضر أو حتّى لحظة التدوّين, ويأخذنا في سردٍ بديعٍ متناوبٍ أقصى اليمين وأقصى اليسار وذات الجنوب وذات الشمال, سردٌ يأخذ اتجاهات كثيرة, وهذه الاتجاهاتُ هي السردُ بما يعنيه المصطلح, أيّ أنّه السردُ غير القابلِ للاستهلاك, لعبةُ التناوبُ هي لعبةُ الكبار من كُتاب السرد, لأنّها لعبةٌ الحرفيين المبدعين الذي يشتغلون على الابتكار والتجديد فيما يكتبون وفي آلياتهم السردية يتميزون, فهم يمارسون لعبة الإغواء والتشويق مع المتلقي ويكسرون نمطية السرود التي تخرجها دور النشر بالكثرة التي جعلت مهمة التميز بين الجيّد وغير الجيد مهمة تبدو صعبة بلْ صعبة للغاية, وقولنا باللعبة أي أنّها فنٌ احترافيٌ يمارسها الفنان المبدع أو الخالق الماهر, هذه الصفة تنطبق على سارد هذه الرواية, فهو تنقل بسردهِ هذا في عوالم عديدة وأزمنة وأمكنة, هذه الانتقالاتُ ليست سهلةً بلْ هي عملية عسيرة لكنها ليست بالمستحيلة في ذات الوقت.
ميزة واضحة تبرز في هذه اللعبة الممتعة, هذه الميزة هي الوصف الذي يكاد أنْ يرسمَ لك المكان الذي يصفه, هو يصفُ أمكنةَ كأنّه يعيشُ فيها ويمارس نقله الإبداعي المباشر, لأنَّ الوصف يخلق تماهيًا في السرد ويكون فرصة استراحة, لكنه هنا في هذه الرواية لمْ يكن محطة استراحة فحسب, بلْ تجاوز هذه الميزة إلى ميزة غيرها, وهي أنّه صارَ شريكًا في بناء عالم السرد المتكامل, لأنّ الإبداعَ تجلّى حتّى بالوصفِ, وهو ميزةٌ واضحة في كلِّ فصول الرواية, البدايةُ وصفيةٌ في مجمل فصول الرواية. يسيح بنا السارد سياحةً بين أمكنةٍ متباينةٍ, وهذه الأمكنة ينقلها لنا بنقلهِ الإبداعي وليس النقل الآلي المباشر. تشتغلُ الروايةُ على ثيمات متعددة بتعدد اتساعها, لأنّها رواية فيما أحسب تتميز بأنّها تنطلق لبثِ رؤى معرّفية, فهي تعنى التكنلوجيا الحديثة أو العالم الصناعي والبترولي, أيّ أنّها تبني عالمًا معرّفيًا إضافة إلى عالمها التخييلي.
نجد صعوبة في تصنيف الرواية, والصعوبةُ تكمن في تضمينها عوالم متعددة وثيمات كثيرة, جعلها تصلح أن تكون عامة أو كثيرة التصنيف, هي ملحمةٌ فنّية مدهشة, ولمّا كانت اللغة أداة تواصلية بين الخالق/ المبدع والمتلقي/ القارئ فإنّ الكاتبَ طوّعها بحسبِ لغتهِ الخطابية التي يروم بثها إلى الآخر, فاللغةُ الرواية هي لغة اجتماعية من حيث أنّ لها جوانب متعددة منها, جانبٌ نفسي, جانب فلسفي, جانب تأريخي, جانب اجتماعي, ولكلّ جانبٍ من هذه الجوانب ما يمّيزه عن غيره, وكل هذه الجوانب يجمعها نسيج واحدٌ هو أنّها رواية لا تستهلك بأكثر من قراءة, كون التداخل بين الجانب المعرفي والتخييلي تكاد أنْ تكون واضحةً لدى القارئ العادي حتّى. يتناوبُ الساردُ بين أزمنةٍ متعددة وأمكنةٍ متعددة, ويجمع بين هذه المتناوبات الجامع المشترك وهو المضمون العام للعمل الفنّي, ينقلنا الكاتب بين مدنٍ مختلفة, ويعطي هُوية لكل مدينة كأنّه أحد سكانها, فهو يُطنب بالوصف ويُكثر منه إلا أنّ هذه الكثرة وهذا الإطناب مما يعطي للسرد تقدمًا في البناء المعماري لمحتوى الرواية, إذن, جعلَ المبدع من حتّى وصفه عملية إبداعية.
يتخذ السارد من ثيمة حفر آبار البترول ثيمة كشفية بحثية, وهذه الثيمةُ تعني في ضمن ما تعنيه, أنّه يتأملُ في النهوض الصناعي الذي صار البترول أحد أركانه الأساسية, فالبترول يعني أن ثمة حالة تحوّل ستمرّ على العالم, وهي الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي الحداثوي, هذا الهاجس المهم في اتخاذهِ لهذه الثيمة جعل الرّواية تبدو وكأنّها ثورة ملحمية في العالم الحديث, هذه الآلية أو قلْ التقنية التي يوظف ثيمة حفر آبار البترول ثيمة مهمة في العمل الإبداعي لهيَ إشارة إلى قراءة العالم من منظورٍ اقتصاديٍ, فالاقتصاد هو عصب الحياة وهو شغلها الشاغل, لذا, تجد العقلانية في العمل الأدبي تجلّت في هذه الرواية, فهي لا تبدو عملًا خياليًا فقط بلْ هي عملٌ علميٌ أو قريبٌ من المنطقية.
لمّا كان أسلوب التناوب هو أجمل الأساليب البنائية وأصعبها , نجد الأدباء الكبار يميلون إليه, ليمارسون لعبة المخاتلة والدوران والرجوع والتقدم في مستويات الحكاية حسبما شاءوا, هذا الأسلوب في هذه الرواية هو المهمين الأكثر, والحكاية اعتمدت سرد حكايتين متناوبتين وأمكنة وأزمنة متباينة, ثمة تناوب يكون بين حكاية وحكاية, وثمة تناوب يكون بين زمن وزمن, وثمة تناوب يكون بين حدثٍ وحدث, ولكن ثمة تناوب يكون بين ثيمة وثيمة, هذه التناوبية بين الفكرة والفكرة جعلت من الرواية عصية على الاستهلاك,فأنت لا تستطيع أنْ تقرأ وتمضي دون أن تستدرك في كثيرٍ من العبارات أو الجمل, ونُشبه الكيفية التي سرد بها الرواية باللعبة , كونه لعبة فنّية مشوّقة ومحببة لنا, لُعبة نستأنس بها ونُعجب بكيفيتها, هذه اللعبةُ في السرد تكون جميلةً, لأنَّ المبدعَ جعل منّها آية من آيات الفن البديع, هذه النزعة الفنّية هي التي تبقي الأعمال خالدة, كون الفن يقترب من الروح الإنسانية وهي منجذبة إليه.