الحلقةالخامسة والسادسة من رواية : شارع ايدون – اضاءات من الذاكرة / د. محمدحيدر محيلان

كنانة نيوز –
من رواية : شارع ايدون / اضاءات من الذاكرة –
د. محمدحيدر محيلان
الحلقة الخامسة
1975-1987
فوقفتُ ملياً اقدر الموقف ، وابحث عن حيلة اتجنب الحرج، وتجنب والدي عناء الذهاب واغلاق المحل ….
حضرتني فكرة وقلت لأبي:
– غدا (يوم المعلم) واريدك ان تكتب لي كلمة بهذه المناسبة العزيزة فألقيها امام الطلاب والمعلمين … سُرَّ ابي بذلك…
– وقال : عفية عليك هكذا اريدك دائماً ..
– وفعلا ُ كان ابي يحب العلم والتعلم لانه حرم من ذلك صغيرا، حيث كان يدرس في المدرسة الرشدية (حسن كامل الصباح اليوم) وهي مدرستي التي تخرجت منها في المرحلة الثانوية .. ولم يكمل تعليمه بسبب وفاة والده الشيخ محمود محيلان المراشدة .. فكان والدي الاول على الصف الذي يضم (100) طالب كان من بينهم الشهيد وصفي التل وحمد الفرحان ومحمد الناصر وكثيرين سيتم ذكرهم في حينه،، فظل والدي يحلم بأن يعوض ويكمل تلك المسيرة المنقطعة بمواصلة ابنائه التعليم.. واستل ورقة وقلم وشرع يكتب كلمة .. واذكر مما كتب : قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا… وكلام يبجل ويجل المعلمين ويعلي من شانهم وقدرهم …
في صباح يوم السبت وكان يوم دوام رسمي لا عطلة فيه وهو اول ايام الاسبوع وقد حفظت الكلمة .. (المنجية كما خططت لها ان تكون … والمنسية او الماسحة ) لموقف يوم الخميس ..
ذهبت للمعلم المشرف على حفل يوم المعلم واضنه كان احمد ابو كف استاذ اللغة العربية
– وقلت له: استاذ انا احضرت كلمة احتفالا بعيد المعلم وارغب بالقائها في الحفل!!
– سُرَّ الاستاذ مني وقال جهز حالك ..
– حاضر استاذ ..
هذه اول مرة القي فيها كلمة … تسارعت دقات قلبي وشعرت بحرارتي ارتفعت .. وبدا علي الاضطراب .. والتوتر..
بدأ الحفل…
واذكر ان الطالب منذر ابن الشاعر نايف ابو عبيد القى كلمة قبلي .. وكان الحفل في الساحة امام المدرسة والطلاب جلوس على الارض..
اذكر من طلاب الصف السادس :هاني سمير يارد
هاني ماجد الحمود ، ياسر حلواني ، نهاد عوض،أنور الشبول، غسان شمايلة ، أحمد سليمان هنداوي ، زهير نصير ،جمال سوسان ، محمود عبندة ،محمد بدير ، منذر أبو عبيد ، عبدالله العمري ، محمد … (من سموع) ،ظافر دلقموني ،عيسى شعواطة ،جمال بني هاني ، أحمد إبراهيم ،محمد دقماق ،حسين حلواني… قاسم السكران وقاسم الشرايري ومحمد سعيد الهامي.. ولا يحضرني بقية الاسماء..
انهى الطالب منذر كلمته….
وانا متوتر وانتظر دوري … ثم نادى الاستاذ احمد ابو كف اما الان فكلمة الطالب محمد حيدر محيلان فليتفضل مشكورا ….
قمت بين خجل وخوف وتوتر من الحضور الطلاب والمعلمين وبينهم المدير( واستاذ العلوم والحساب عواد ) وبين صور تلمع في ذاكرتي على وجوه الطلاب افاعي ونمور واسود… وبين غضب المدير واستدعائه ابي .. تحمست لأمسح صورة الامس الباهتة بصورة جديدة وموقف مشرف .. وبدأت بصوت عال : بسم الله الرحمن الرحيم ….
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا..
وعيوني الى المدير .. ( محدثاً نفسي : اه انا محمد ابو العلكة ما جبت ابوي جبت كلمة.. ) احدث نفسي… وانظر للمدير ويخالجني زهو ممزوج بوجل وانتظار ردة فعل المدير …(فلقة ولا عصي على يديَّ .. ولا على مؤخرتي)
… (وفي ذاكرتي ومشاعري ذكريات مؤلمة عن الفلقة على المؤخرة .. في الصف الثالث إبتدائي في مدرسة محمد بن قاسم الثقفي في (منطقة البارحة) كنت شاطر ومبرز لكن لسبب ما لم اوفق في حفظ (سورة البيِّنَّة) وثاني يوم ما قدرت اكملها فطلبني المعلم لفلقة على المقعد الامامي للصف .. وتمت سياقتي… منكسر القامة امشي .. في كفي كتابي مفتوحاً.. و امامي انظر رفشي…..ومطأطئي الهامة مكسور الخاطر سرت مخذولا بائساً خجلا (وانا من اوائل الصف) مما اثار شهوة الطلاب الكسالى للاستمتاع بمعاقبتي ومنهم الجالسين في المقعد الاول … استدرت نحو المقعد الاول تم سحبي بعنف وتشفي) من يديَّ الاثنتين بغلظة وقوة،، بواسطة الطلاب الجالسين بالمقعد الامامي .. وبدأ المعلم بضربي فلقة على مؤخرتي … لم اكن اتالم من الفلقة بقدر الخزي من الموقف …ومماحكة الطلاب المُكَبِلين ليديَّ … وضحكاتهم السمجة ومد لسانهم واستهزاءهم بي المُغيض ( وانا اشطر منهم أصلاً) وانسحبت مخزيا بائساً حزيناً )… …
واكمل قراءة الكلمة بعيد المعلم …..وانظر للمدير وكان يستحسن أدائي…. وبدات معنوياتي ترتفع ….. واقرأ مبجلا المعلم .. واشدد على الحروف والكلمات .. التي تجل وتقدر المعلم …
ثم صفق الجميع المدير والمعلمون .. واعتبرت ذلك عفو عام وَصَفْحْ …. انتهت معه المشكلة…
الحلقة السادسة
من رواية شارع ايدون : اضاءات من الذاكرةً
د. محمدحيدر محيلان
1975-1987
المطر ينزل بغزارة والسماء تهتز وترتعد والغيوم تزداد حلكة وظلمة وبدأت الأمواه تتلاطم في شارع ايدون (شارع شفيق الرشيدات) الساحلة من اعلى منطقة المستنبت (جامعة اليرموك فيما بعد ) مدخل قرية ايدون حيث الشارع ينحدر من اعلى مكان في الجنوب باتجاه الشمال حتى يصل لبطن الوادي (سينما الجميل ) فيما بعد ، اي ان تجمع المياه يكون امام محل والدي (محمص المراشدة) المقابل لسينما الجميل حيث تهبط المياه وتغور في مصارف على جانبي الشارع الممتد من دوار وصفي التل تقاطع شوارع تتلاقى من اقصى الغرب شارع فلسطين ومن اقصى الشرق شارع بغداد ومن اقصى الشمال شارع المسجد الكبير (وشارع الساعة ينتهي بحلويات العفوري) منيب ، المنحدرين باتجاه الشرق وجميعها تلتقي بدوار وصفي التل.. بدأت المياه تفيض وتنحدر بقوة باتجاه البقعة المنخفضة امام سينما الجميل ولم تعد المصارف تستوعب السيل الهابط من عَليْ …بدأت المياه ترتفع فوق الرصيف وكلما جاءت سيارة من جهة الدوار شمالا حيث الاتجاه الوحيد للشارع صوب الجامعة ارتفع منسوب المياه بحركة المد بفعل ثقل السيارة المارة حيث تغرق المحال التجارية والاي تعقبها اصوات التجار :
– ابو احمد المزاري جارنا حسن العلي الجراح على يسار محلنا : شوي شوي يا عمي
– اخي محمود : تمهل يا بني ادم ..
– اخي تحسين : بتحس الواحد منهم بايع اخلاقه ومشتري سيارة…..
– جارنا على يمين محلنا رضا الدلقموني ابو حسين: يا محترم عمهلك …
– طبعا تلك اقل كلمات تقال وغيرها من الصراخ الغاضب… تترجم حنق وغضب التجار… الغارقين بماء الشارع الموحل..
– اولاد بدير محمود ومحمد بدير بوضة بدير بالصيف وحلويات وكرابيج بالشتاء على يمين جارنا ابو حسين : شوي شوي يا اخينا…
– بالمقابل مطعم سامح بجانب السينما من الجنوب تختلط رائحة الفلافل العابقة ووهج الصاج الذي يديره (خضر ) ****
بماء الشارع الموحلة .. ولكن خضر القادم من فلسطين لا ينبس ببنت شفة….وان تحمم بماء موحل او مالح او صالح او غير صالح فهذا الموقف وهذه اللحظات ليست اشد قسوة من واقعه المؤلم فقد جاء من فلسطين قاطعاً (الشريعة) مشيا على الاقدام في ليلة باردة لا يدري اين يسير حتى هبط في الكرك وهو صبي ولا يحمل اي وثيقة تعرف به انه خضر… الذي جاء لاربد وتلقفه سامح المراشدة ليستخدمه عاملا (صبي) في مطعمه المعروف بجانب سينما الجميل من خمسينات القرن الماضي ثم ارتقى ليصبح (سائق صاج فلافل )حسب قوله وهو قليل الكلام واذا تكلم نطق بحكمة او نكتة وبقي فوق الصاج يقلي الفلافل اكثر من خمسين عام وهو بدون هوية ولا عائلة …كل من في الشارع ينضحون الماء … ويشرعون في ازاحتها من داخل وامام متاجرهم .. وكانت المتاجر جُلها اهبط من الرصيف فتصبح بركة ماء تدمر البضاعة الملقاة على ارضية المتجر وكانت لحظات طوارىء لجميع التجار.. الكل يحمل قشاطة ومنهم مجرود وسطل ينضح الماء المختلط بمواد وبضاعة اخرى انسابت مع المياه – ربما لطول مكوثها بالمحل بدون حركة وتقادم عهدها بالشارع فاختارت الخروج مع المياه القادمة من الشارع- كانت كابوساً ملحقا الخسارة ومدمرا البسطات الهابطة …استغاث التجار معه بالدفاع المدني لسحب المياه من المحال التجارية والشارع المتلاطم الامواج… كنت أُشَمِر عن ساق.. رافعاً بنطالي ويدي على عصا القشاطة ارد الموج القادم من الشارع ، بسرعة وخفة حركة واتبعها بصرخات راشقة لصاحب التاكسي الذي يمر مسرعا … وربما احتجنا ان تضع غطاء المنهل (مصرف المياه) وهو كتلة حديدية مفرزة بشقوق لتصريف المياه، ونضع فوقها حجارة فاذا جاءت السيارة مسرعة ارتطمت بالغطاء والحجارة وتوقفت مرغمة لا طوعاً … او ربما وضعنا اشارة فوق الغطاء بعصا وشرايط كفزاعة الطيور في المزارع فاذا رأها السائق تمهل سائراً بلطف ومعدياً الامواج ومد المياه المغرق لبضاعة التجار ببطء …واذكر ان المياه الراشقة بتسارع السيارات كانت تغرق واجهة بسطة المحمص خاصتنا من البزر والقضامة والفستق ووجوهنا… فطالما اضطررنا لجمعها تالفة من المياه .. وكان يوجد داخل المحمص سخانة من الكهرباء لتبقى المكسرات ساخنة… وكنت اضع يدي داخل بسطة المحمص في ليال الشتاء الباردة… لتسخن قليلاً … وان كان مبنى السينما مرتفع ويصد الهواء … بعضه .. الا انها كانت تمر علينا ايام صعاباً باردة .. فكيف اذا رَشَقَتنا السيارات بمياه الشارع لا نملك الا الصبر والحوقلة وبعض صراخ… وكنت جهوري الصوت حادهُ فاتبع السائق الصرخة مدوية ناقمة … ومتابعا عمليات تقشيط سريع للمياه ونضح مستمر ..وكان عمال سينما الجميل ايضا على جهوزية عالية يقفون صفا واحداً كصف العسكر .. بمماسح وقشاطات … كان شارع ايدون كله يقف استعدادا كلما امطرت او ارعدت او غيمت .. كان فصل الشتاء في شارع ايدون الممتد من دوار وصفي التل ولغاية جامعة اليرموك فصلا مقيتا وكارثي على اصحاب المتاجر .. كنا نشعل صوبة (علاء الدين ) في المحل ونضع فوقها كما في المنازل الاربدية ،. تنكة السمنة (ابو غزال) لتدفئة او تسخين الماء وكنا نضع حبات الكستنا او البطاطا لنشويها ونحمرها ونتسلى باكلها ونخفف من وطاة الشتاء الهابط مع البرد القارص على شارع ايدون… او نضع ابريق الشاي بنكهة شاي الغزالين على المدفاة واجواء شاعرية جميلة مع تساقط المطر .. (لولا سوء تنظيم الشارع وانسحاله من علٍ ) ، ….كنت صغيرا وبدا مشواري والتحقت بالمحل منذ الصف السادس كعادة ابي معنا جميعا حيث يلحقنا بالمحل من الصف السادس.. واذكر اني ترافقت مع اخي محمود لسنوات ثم سافر للدراسة في حلب ثم مع اخي محمد تحسين ثم مع اخي حسوني وسافر للدراسة ايضا لحلب واحيانا مع والدي مساءاً حيث التحق اخي محمد تحسين ايضا بالجامعة بدمشق … كان والدي يؤمن ان يُلْحِقَنا بالمحل بسن مبكر ( فينأى بنا عن الاختلاط بمن هبَّ ودبَّ )ويكسبنا بعض المهارة السوقية التجارية والاجتماعية وثقافة العمل والتجارة، وان كان ذلك على حساب العاب الطفولة واتراب الحارة… فكلنا (اقصد اخوتي) كنا بلا طفولة او مراهقة مشبعة .. ولم نشبع طفولتنا كما غيرنا من الاطفال او مراهقتنا فكنا نعمل معه او مع اخوتنا الكبار بتلك المرحلة بجد وسعي واتزان ورجولة .. فلا غرابة اذا مارس احدنا طفولته او مراهقته بعد سنين العمر … اذكر وانا في الجامعة وما زلت اعمل في المحل ان احد الاطفال جاء يشتري بطاريات للعبة سيارة متحركة،، فوضعت البطاريات المشتراة في السيارة وبدات العب فيها لدقائق.. ثم سلمتها له .. وقد حققت بعض نشوة طفولية ممتعة.. وطالما جاء احد الاطفال يشتري من المحل ومعه دراجة هوائية فيكون احد اخوتي في المحل فيمتطيها اخي أو انا ،، ويبقى الاخ الاخر يلهي الولد وربما اكرمه بكمشة بزر او باكيت عصير او كاسة (سلاش بوبي) (حيث كنا نضع امام المحل ثلاجة عصير لها طربوش متحرك في الصيف.. ) … كانت تلك مرحلة طفولة متاخرة … وشقاوة نمارسها على كبر …
(خضر )***اسم وهمي غير حقيقي
الى اللقاء في الحلقة السابعة