التوثيق في شعر عيسى سويلم عباسي / بقلم الدكتور إبراهيم علي الطيار

كنانة نيوز –

التوثيق في شعر عيسى سويلم عباسي
بقلم : الدكتور إبراهيم علي الطيار
يبهرك الشاعر عيسى عباسي بطريقة توظيف أسماء الأماكن والأشياء في في قصائده الشعبية ليشكل شعره الشعبي معجماً متناغماً في اللهجة الإربدية الحورانية ومعجماً لوسائل عيش أهلها وأهل الحصن فقد وثق للمكان والأدوات والمأكولات والمزروعات، فالشعر الشعبي هو وسيلة التوثيق الشعبية لتفاصيل الحياة التي عاشها ويعيشها الشاعر الشعبي، يسجل الأسماء والأحداث بإحساس صادق ويدون المشاعر التي يسدلها على الكلمات ليكون الشعر الشعبي منتجاً أدبياً يُعَبر عن أمور كثيرة، فهو يوثق للأشخاص وللأحداث والمشاعر ويدون الأدوات وأسماء الأشياء التي يستخدمها مجتمع معين في وقت معين لذلك فهو ذاكرة مليئة بالصور والحكايات والمعلومات في قالب شعوري شعري عاطفي فطري منسوج ضمن قصائد شعرية مختلفة، فالشاعر الشعبي كما هو الشاعر الفصيح في العصور كلها هو من يدون شفهياً ما أصبح يدون كتابيا لذلك فقد قالوا بأن الشعر هو ديوان العرب.
أما شاعرنا الفقيد عيسى عباسي ابن الحصن وأرض الدحنون والسنابل والجمال، فقد مثل نموذجاً شعرياً في الشعر الشعبي عنوانه الكبير (التوثيق) Documentation والتوثيق كما الوثيقة عند العرب من الوثوق والثقة والقوة فلا تكون الوثيقة وثيقة إلا لأنها قوية وصحيحة ومدونة مأخوذة من أصحاب الثقة، كيف لا ونحن سمعنا شاعرنا الفقيد منغرساً بالأرض يحبها لا بل يعشقها حين يقول
قد عاد ابن الحصن ملهوفاً لها // ليقبل الدحنون بل عشب البيادر
فهو قد تناول بلدته “الحصن” كقريته التي أحب وعشق وشبه الأردن بالأم الرؤوم التي تحنو على أبنائها دائما، كذلك فقد ذكر بغداد في قصيدته “بغداد والتاريخ” ورسم بشعره صورة المجد والبطولة، وقد ربط المكان بأشهر ما فيه من منتج زراعي فتغنى بعكوب حوفا وعلت الحصن وحميض وادي العين وخرفيش المحاجر وسجل في شعره بطم وزبيب عنجرة وفحم كفرنجة، كذلك فقد تغنى بفزعة الطيانات والبيادر وصحون الخشب والمغرفة والشكوة والمزراب والبرغل والتبان، فيقول
شِكوات مليانه لبن يوم الخضيض تشوف كركيعهن داير
يازينة الطباخ المعبى جمر محلاك ياطباخ شغل أمي جواهر
ديرة هلي، ما أحلاها قبل، والرب رافقنا والكل شاكر
وقد تغنى فقيدنا بالمعلم مستذكرا فضله ودوره في تنشأة الجيل وبناء المستقبل فأسماه (خميرة الخير) مُشبهاً اياه بخميرة الخبز التي لايكون إلا بها، فهو ابن هذه الارض لايفكر إلا من خلال ذلك، فهو يقول عن المعلم:
معلمنا شو منكر حاله // بطلعله يغني مواله
بحرق حاله زي الشمعة // ويضوي ع غيره هنياله
لازم نحترمه ونجله // سامي في فكره وافعاله
وهو الذي يتذكر دائما الماضي الذي لا يفارق خاطره فهو يستذكر المطر الشديد وطريقة التدفئة ونوع الأكل، فيقول
ساق الله أيام اللزبات ندَّفى ع الكوانين // نوكل كشكية بالزيت شبعانين ودفيانين
وقد وثَّق في قصيدة له أجزاء المحراث السائد في تلك الحقبة قبل المحراث الآلي وذكر أجزاءه (مثل الزغت، الناطح، الكدان) وكذلك ذكر (الخرج، المبذورة)، وعرَّج على ذكر دور الرجل والمرأة بعملية الزراعة في ذلك الوقت من (حراثة وبذار وحصيدة وتغمير)، وذكر أنواع الأكلات التي كانت ترافق ذلك كالشخاتير واللازقيات والمكامير، وتحدث عن صينية القش (المِنسَفَة) المبدية من القش (قصب الشعير) والمنقوشة باستخدام (المِخَلة) الحديد، يقول
الشَرعة فاقت للتذكير بدري مثل العصافير / وقالت بدها تعاون يالله ياحضرة النير
ما بتعرف انه الفلاح متعود على التبكير / سن السكة والعبوة اجا حراث الحواكير
وعزل ارضه بالكامل حتى وصل الدواقير / ما أنشطه ها الفلاح بينام وبصحى بكير
احنا اساس الانتاج كوارة وفرن ودحابير / هنيئا لها الفلاح سيد نفسك يا أمير
وقد انتقد غش التجار وسوء الأدب وقلة الحشمة والكفر وراتب المتقاعد، تناول حب الأرض وحال المواطن التعب ينصحه بالعودة للارض والاعتماد على الذات في قصيدته (وقعة ملعونة حرسي)، يقول
وحياتك كمشة عجوة ومعها خبز الطوابين
من القمح الحوراني حيله حيل الفلاحين
أفيَّد وأضمن للصحة من خبصات العجانين
وغنى للرغيف متحيزاً للأرض والمواطن فقال
خلوا الحالة مستورة // وخلوا الرغيف بحاله
جمهوره اقوى جمهور // لو تسمعوا مواله
مواله بسيط كثير // كل واحد مننا قاله
لأنه أصله طحين وإله فنونه وأشكاله
صارت العيشه مرة // خلو كلشي ع حاله
وفي قصيدته عن البير تسلسل بخطوات حفر البير وطي الرقبة والبكرة ودلو العجل وتجهيز الخرزة بل ربط ذلك بمكان سكن ذلك العامل الذي يقوم بذلك وهي قرية جحفية حيث كان العامل ينتقل من قريته إلى الحصن ويسكن فيها حتى ينهي عمله ويأخذ إكراميته والتي كانت من خيرات هذه الأرض: يقول
بلشنا بالتربة الشغل // هان الأمر وصلوا الصخر
جِبنا حجار مشكلات // للطي وقفنا الحفر
وبعد انتهاء الحفر يقول للعامل إن اجرته جاهزة ويطلب منه مساعدته في الخطوة التالية، وهنا يقول
اكراميتك شوال القمح مغربل ع قرن الهوى
وطلب من الحفار المساعدة في إيجاد شخص يقصر البير
بعد علينا نشيده دبرنا بالقصير
ليرد عليه العامل
معلوم بعرف حدا ومانع ترى بيصير
ويربط هنا المكان كوادي ورَّان والبطَّان وصمد وعجلون بسيول الماء التي يمكن أن يجد بها معدات إكمال البير مثل الرمل المناسب لذلك، ويتغنى بفرحة الفلاح باكتمال العمل وامتلاء البير فيقول
نزل المطر والخير أجانا كب وانحجزوا الرعيان
والبير طفح والمي منه تصب
دلو العجل محضر سلف بجنزير مانع للأمان
ويشكر الله على نعمة المطر بإيمان العابد الممتن لربه والمؤمن المخلص واصفا أهمية بير الماء للبيت القروي وخاصة البعيد عن نبع الماء أو في فصل الصيف
البير روح الدار ومن المي كلشي حي // ما أكرمك ياربنا تعطينا شمس وفي
الأرض تلقح ثلج والمطر يرويها // زاعوق ورى زاعوق كلشي انتعش بالمي
الشاعر الشعبي عيسى عباسي ذلك المؤمن المخلص الذي يقول في قصيدة له:
الكفر مستشري علن هاي أرذل السنين // شو هالوقعة الملعونة الطفر كاش الفلاحين
السما زعلانه منَّا أغضبنا رب العالمين // ارحمنا يارب ارحمنا واسمع دعوتنا آمين
نعم فقد وثق ابو غسان عيسى عباسي المكان برسم صورة واقعية لحياة الناس وطبيعة معيشتهم فلم ينسى اسلوب عملهم الذي يسوده التعاون ورضاهم بمنتجات أرضهم بل وأكد في شعره على معان سامية وقيم عليا كثيرة.