كنانة نيوز – ثقافة –
القيم في شعر المرحوم الشاعر سيف الدين الزعبي
ديوان “عبق من الماضي”
كتبها: الدكتور إبراهيم علي الطيار
إن القيم هي الأخلاقيات والقواعد والمبادئ السامية التي نشأ وتربى عليها الفرد، وهي تعرَّف على أنها أكثر نظام يخاطب السلوك الإنساني ككائن اجتماعي، وتحدِّد أهدافه ومُثلَه العليا ومبادئه الثابتة لضمان ممارسة حياة اجتماعية سليمة، وتلعب القيم دوراً بارزاً في حياة الأفراد والمجتمعات، فهي تشكل الجانب المعنوي من السلوك الإنساني العام والعصب الرئيسي للسلوك الوجداني والاجتماعي والثقافي عند الفرد، حيث أنها تشكل مضمون ثقافة الفرد ومحتواها، والتي هي التعبير الحي عن القيم التي يتبناها الفرد أو المجتمع، حيث قال توفيق الحكيم (إن الشخص ذا القيمة هو الذي يعرف القيم كما يعرف الصائغ درجات الذهب) وقال أحدهم (إن المجتمع بالقيم هو مجتمع ثري)،
وقد جاءت تجربة الأخ والشاعر المرحوم سيف الدين الزعبي رحمه الله، تجربة خالطت ثرى هذه الأرض الطيبة وامتزجت بحبات عرق الآباء والأجداد وبحنان ورأفة الأمهات والجدات وهي تمسح براحتيها الخشنة التي انسابت صروف الدهر أنهاراً بين طياتها على جبين حبات تراب هذه الأرض المعطاء لتصبح أنعم من خد الصبية الحسناء، تُمهِدها بعطف وترويها بحب وحنان وترعاها بحبات عيونها لتقطف بعد ذلك منها مؤونة الأبناء وتشبع جوعتهم العاطفية والعضوية، وتصنع من مقولة جبران خليل جبران “ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تخيط” واقعاً وأساساً لبناء الأجيال وصنع الرجال، فهي تزرع بيد وتربي وتنتج باليد الأخرى.
حيث خاطبنا شاعرنا المرحوم بديوانه الشعري “عبق من الماضي” ففاحت معه وبه رائحة الزعتر البري وخبز التنور وطرِبت أسماعنا لترانيم راعٍ في هضبة تطل على وادي اليرموك أو لأهازيج قاطفي الزيتون وهجيني وحكايا من يحصدون سنابل القمح في سهول حوران، مجتمعين على سفرة مباركة من زيت وزيتون وزعتر ولبن فهم يأكلون ما ينتجون ويزرعون ما يحتاجون فيكملون بذلك دورة الإنتاج مشكلين نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وقيمياً وسلوكياً ناضجاً ومتكاملاً.
وفي هذه السهول الخصبة بالمحبة والغِلال سهول حوران نشأ وترعرع شاعرنا المرحوم، وتذَّكر في قصيدته “ذكريات فلاح” الحابون والغمار والشاعوب والمذراة والعونة والصبر على القلة والمحماسة والدلة، فتناغمت في مصطلحات هذه القصيدة ذكريات مواسم الحصاد مع القيم العليا التي تدعو للمحبة والتعاون والصبر والكرم.
أذكر العونة ماحد على الثاني يتعلَّى // الزلم والنسوان يرافقوا علاليها
أذكر النقرة والمحماس والدلة // وقعدات المضافات دارت قهاويها
وقد استهل شاعرنا المرحوم ديوانه الشعري بقصيدة حملت نفس الاسم تغنى فيها بالأصالة والكرم والشجاعة وبحُسن خصال الأجداد، فمع قوتهم التي تميزوا بها وبأسهم كانوا كِراماً ولطافاً يصنعون السكينة حتى في الأرض التي يضربونها بمعاولهم:
الأرض ما شكت من ضربة معاولهم // والزرع قاس وغفا على مناجلهم
والغربال رقص مع هزة خواصرهم // والسراج ما ينطفي من غبرة بيادرهم
وقد خاطب جده أيضاً في قصيدة “سألت جدي” وسأله عن أسباب تغير الأحوال والظروف، إلا أن جده في القصيدة لم تتغير سوالفه ولم تتبدل فهو يدعو إلى قيم مثلى كالتقوى والقناعة، ويتوافق ذلك مع ما جاء في قصيدة “نصائح” التي تناولت خصال ابن البلد المنغرس بتراب أرضه وقيمه العربية الأصيلة، فهو يوصي بالتمسك بعبادة الله والإحسان إلى الوالدين والمحافظة على الأخوّة وإكرام الزوجة وتربية الأبناء تربية صالحة، ويوصي كذلك بالكرم والجود وحماية الدخيل والإحسان للناس وقول الحق والصواب دائماً.
اسمع وصاتي وخليك عاقل // لا تحيد عن الحق وتقول زلَّه
ربك المعبود ماله مثايل // الواحد القهار خلَّك بظله
أمك وأبوك مالهم بدايل // اخفض ليهم جناحك بذله
وخلك جواد ولو ماكنت طايل // الجود من الماجود .. لو فنجان دله
أما في قصيدة “وصاني ابوي” فقد أبحر شاعرنا المرحوم في دواخل نفوس الآباء وجمع القيم السمحة والفاضلة على شكل وصية تدعو إلى احترام الكبار وصحبة الأخيار والاقتداء بهم في سلوكهم وتصرفاتهم وحديثهم، وقد دعا في هذه القصيدة إلى التعلم وحفظ المعروف والوفاء، فهو يقول:
علمني ابوي .. لسانك حصانك // وقلي .. أبوي خلي العلم شانك
وقلي .. لاتنكر معروف من عانك // وقلي .. قدم الخير تلقاه قدامك
فهي دعوة للخير بشتى أشكاله، وما أكثر القيم التي دعا لها شاعرنا المرحوم في ديوانه “عبق من الماضي” والتي مثلها بعدة طرق وعلى عدة ألسن ومن قبل شخوص عدة وهذا قد تكرر في قصائد مختلفة من هذا الديوان وهي قصيدة “إرضى بنصيبك” وقصيدة “البنت أمانة” وقصيدة “صون النعمة”.
كذلك فقد ظهرت قيمة حب الوطن والانتماء له واضحة وجلية في ديوان شاعرنا المرحوم، فقد تغنى في قصيدة “وطني” بمن (عمروا حجاره) وصبح على النشامى (اللي ذادوا العدى عنه)، فمن عاد للوطن من بعد غياب يقول:
ترابك ياوطن أغلى من التبر وأغلى // والبعد عنك جفى ومرك أحلى من الشهد أحلى
وقال متغزلاً وهائماً بالوطن يعبر عن ما يدور بخلده بطريقة تمزج ما بين الغزل والحب والحَمَّية الأصيلة والمتأصلة بحب الارض والعرض والمنجز:
مزيون ياوطن بعيون من شافك // وملعون من ساوم على ذرة من ترابك
ومهيون من حاول ينهب من اموالك // وملعون من رماك بحجر ولو ما صابك
نعم فقد لفت نظر شاعرنا المرحوم تغير الحال وتبدل المقال وانقلاب المفاهيم والقيم التي تربينا عليها وهذه الحرب التي غزت عقولنا تحت مسميات عده، حيث عبر عن ذلك في قصيدته “أشقلبت”، والتي امتزجت في ثنايا ابياتها القضايا المختلفة التي تهم الجيل وتوثق لمعنى التغير الذي يقصده شاعرنا فمن ضياع هيبة الكبير والمعلم وغياب العدل والتربية وتقليد الغرب بكل شيء والعولمة والخلافات التي انتشرت ما بين الإخوة وسيطرة الغضب والحقد والنظرة المادية على الناس، يقول في بعضها:
من يوم ما راحت هيبة الكبير بالمجالس // ومن يوم ما صار الحرامي للبلد حارس
بقولك إنها … أشقلبت
ومن يوم ما صار الحكم والشور للنسوان // ومن يوم ما صار السقط يتصدروا الديوان
بقولك إنها … اشقلبت
ومن يوم ما تركنا الأرض صارت أرضنا بور // ومن يوم ما تركنا طريق الحق ومشينا بطريق الزور
بقولّك … إنها اشقلبت
بقولّك … إنها اشقلبت
في الختام
من خلال هذا الاستعراض السريع لديون الشاعر المرحوم سيف الدين الزعبي (عبق من الماضي) حملتني سفينة الذكريات التي أبحرت معها في ثنايا ماض نفتقده وفي لجة حاضر نعيشه بمفردات فلاح مرتبط بالأرض “بِساطه الأصالة ومتكؤه الطيبة والبساطة”، يجلس أمام بيته في ساعات الغروب بعد يوم عمل شاق عزيز النفس يسمع مذياعه ويأكل ما جادت به الأرض من خيرات، يراجع ما مضى من يومه ويحلم بالأفضل دائماً يحدوه الأمل ويحلق بخياله المرتبط بأرضه نحو أفق النصر وتحقيق الأفضل دائماً، ديوان غزير بالمعاني والأصالة وبالقيم التي بدأت تختفي من مجتمعاتنا يوثق لمرحلة تاريخية وفكرية ولجيل أحب الله وأهله وعشق أرضه وتماهى في ذاته ووثق في إمكانياته يقف على أرض ثابتتة يستمد منها الثبات والعنفوان ومعاني العزة والنصر يرى ببصر وبصيرة ثاقبة ما حوله وما خلف تلك الجبال التي تقع في الأفق شامخاً شموخ الآباء والأجداد الذين تعلمنا منهم كل المعاني والقيم الجميلة، وفياً وكريماً ومعطاءً كما هي أمهاتنا وجداتنا اللواتي زرعن وأنجبن وربين ونسجن العقول والملابس من خيرات هذه الأرض التي نعيش عليها.
فهو قد جمع معاني الأصالة والقيم السامية من شتى المصادر وتمثلها ومثلها في شعره.