كنانه نيوز – الفسيفساء.. ماهيتها ونشأتها الأولى
بقلم فريال بني عيسى
من ذاك الفن السرمدي الغافي على حيطان الأمكنة وقبابها, ومن طيات أرضياتها روى لنا التاريخ قصص وحكايات عكست الأوجه المختلفة لأنماط الحياة المتنوعة التي عاشتها الحضارات السابقة باختلاف أزمانها, إذ كان بمثابة المصدر الفني الغني الذي أثرى مكتباتنا عن أمم وان استغرقت في قدمها فقد حضرت بفنها لتخاطبنا عن أسلوب حياتها من خلال التشابك والتلاحم لقطع صغيرة متنوعة الخامات مستخدمة الأحجار آو الزلط تارة (pebbles) مرورا بالفخار ( pottery ) التي استخدمت في الألف الرابع قبل الميلاد في مدينة أنين جنوب العراق تارة أخرى إلى الرخام (marble) الذي استخدم بشكل واسع خلال العصر الروماني إلى أن وصلت إلى استخدام الخزف (ceramic) والزجاج (glass) خلال العصر البيزنطي.
هذا بالإضافة إلى الجرانيت والبلور والأصداف غير متناسين لمادة الأخشاب التي فتحت لنا أفاقا غير مسبوقة للتعرف على الفكر والفلسفة والعلم الذي رسم حياة الأمم ضمن إطار الرؤية ذات الطابع الخاص بكل حضارة تعاقبت على هذا الزمن, وقد تضمنت تصاميمها موضوعات دينية ودنيوية إلى جانب الموضوعات المستوحاة من الأساطير والخرافات العقائدية ورسومات هندسية تضمنت أشكال نباتية وحيوانية, أذن هو الفن
المصنوع من مكعبات صغيرة هدفها تشكيل الصور الفسيفسائية التي تدعى (tesserae) ذات الأصل اليوناني والتي تعني ذات الجهات الأربع, وقد جاءت كلمة فسيفساء من كلمة (muses) اليونانية المستوحاة من آلهة الينابيع والإلهام الفني المرافقة للإلهة ابولو. وتجتمع هذه المكعبات جنبا إلى جنب بأيدي فنانين متخصصين برعوا بتثبيت القطع الفسيفائية بالملاط على أسطح ناعمة لتشكل في النهاية نماذج تزينيه زخرفيه غطت مساحات واسعة للمباني العامة والخاصة الدينية والدنيوية. غير متجاهلين لحقيقة استخدام الفسيفساء لإغراض عملية في أحيانا كثيرة كتلك التي ظهرت على شكل أوتاد خزفية ملونة ضغطت في الجدران الإسمنتية لتقويتها, اذ استعمل هذا الأسلوب في أقدم الأعمال الفسيفسائية المعروفة والموجودة في منطقة الهلال الخصيب وفي أوروبا بالتحديد وذلك في (300ق.م) إبان الفترة الإغريقية.
ولو تتبعنا بدايات هذا الفن منذ نشأته الأولى نجد بأن أقدم ظهور له كان منذ العصر الحجري المتوسط(10000_7500ق.م) منذ أن طعم إنسان هذا العصر أدواته مترجما لنا فن الترصيع لتكون بمثابة البدايات الأولى لنشأة هذا الفن, ليستخدم فيما بعد كزينة بناء في(sumaria)من خلال إلصاق الأحجار الصغيرة في الطين حيث رصصت بأحكام بجانب بعضها بغرض التقوية والتزيينز
وانه , لن ننسَ فضل العراقيين باعتبارهم الأوائل الذين استخدموا الطوب المزجج في تزيين الجدران بأشكال هندسية متعددة, هذا بالإضافة إلى الفضل في تقليل أحجام المواد المستخدمة إلى اقل قدر ممكن يرافقها مهارة وحرفية عالية في آلية التركيب, هذا وقد عثر على أرضيات مخروطية طينية في الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين وقد ظهرت بألوان متعددة مغروسة بالطين على حوائط
الأبنية والأعمدة قبل أن تجف, كما عثر على فسيفساء آشورية شمال العراق تؤرخ للقرن التاسع قبل الميلاد.ولم تكن حضارة وادي النيل بعيدة عن إدراج بصماتها بعالم هذا الفن التصويري الزخرفي بصورة مبكرة, حيث عثر على ما يشبه الفسيفساء في بعض غرف هرم سقارة, وقد ظهرت الفسيفساء مستخدمة المكعبات الفخارية منذ القرن الثالث قبل الميلاد إبان العهد الهلنستي متأثرة بتلك التي استخدمت في الألف الرابع قبل الميلاد في مدينة آنين جنوب العراق,
وقد شهد هذا الفن تطورا ملحوظا خلال الفترة الإغريقية , كما وقد ظهرت الفسيفساء اليونانية المتأثرة أصلا بالفسيفساء الأشورية مع حفاظها ناعمة ملساء أعدت بشكل متقن ومثال ذلك الأرضيات التي عثر عليها في روما والإسكندرية , ولكن وان اتسع نطاق هذا الفن وشاع بصورة كبيرة إبان العصر الروماني خاصة في الفترة الواقعة ما بين القرن الأول الميلادي وحتى القرن الثالث هي فترة الذروة والازدهار لهذه الإمبراطورية لنجد إن هذا الفن التصويري قد غطى منازل مواطنيها الذين ينعمون بحياة فارهة من أبناء الطبقة المخملية الارستقراطية, إذ لم يكد يخلو بيت في روما إلا وقد اكتست قاعته الداخلية بلوحات فسيفسائية تصور لنا عوالم البحار تارة وما يرتبط بها من سفن تعلوها واسماك تعيش بباطنهاز
فضلا على تصويرها لأنواع أخرى من الحيوانات ولوحظ بأن الرومانيين اشاعوا استخدام اللونين الأبيض والأسود وقد ظهر الميل لعمل أشكال هندسية في أواخر القرن الثالث الميلادي وذلك نظرا للتأثير الذي أحدثته دخول المسيحية الأولى التي نادت بالابتعاد عن الأشكال الوثنية المتصلة بالأساطير المتصلة بالآلهة لكونها اصبحت مثيرة للاشمئزاز وتتعارض مع تعاليم الدين الجديد, ليدخل هذا الفن بمرحلة جديدة أطلق عليها العصر الذهبي إبان العصر البيزنطي, والتي ظهرت بكثرة على جدران الكنائس وأرضياتها وقبابها.
وقد استخدمت فنون الزخرفة الفسيفسائية إبان هذا العصر المستمدة من مصدرين أولهما المدن الهلنستية مثل الإسكندرية والأخرى كانت من الحضارة الساسانية من خلال استمرارها بالموضوعات الوثنية المستمدة من الأساطير التي قلدت الاسكندر في أشجار الكروم وأوراق الاقانتوس وتجلى الفن السكندري ممثلا بأشكال الوجوه والمناظر الطبيعية. ويذكر انه في القرن السادس ميلادي تم تحريم الإيقونات وعارضوا استخدام التماثيل الدينية داخل الكنائس مما أثارت الكراهية للصور الدينية لما لها من معاني رمزية جعلتها موضع التقديس والاحترام لتصبح عنوان التقوى البيزنطية فظهر ما يعارض تقديس الإيقونات وركزوا على الديانة المسيحية كدين صفاء ونقاء وسمو روحي ويجب ان لا يشوه بعبادة الأيقونات التي كانت مقدسة لدى الكنائس اليونانية.
كما شهد هذا الفن تطور تقني من حيث استعمال الألوان واستغلال درجاتها وتدرجات الألوان في الزجاج وقد استعمل الزجاج لتغطية الجدران والقباب بينما استعملت مكعبات من الحجارة والرخام لتغطية الأرضيات لأنها تتحمل أكثر ولا تتلف بسهولة, كما يحسب للبيزنطيين إلى جانب الزجاج إدخالهم للمعادن في صناعة اللوحات الفسيفسائية.
أما الفسيفساء الإسلامية فقد كانت امتداد للفسيفساء البيزنطية في حين احتفظوا بفضل تطوير صناعة هذا الفن من حيث استخدامهم للألوان المائية في التلوين مع ابتكار أشكالا هندسية غير معهودة في تزيين القصور والمعابد لتمتد هذه التقنية لما بعد الإسلام إذ استعملت في زخرفة جدران المساجد والعمائر والقصور إثناء الحكم الأموي والعباسي والفاطمي في مصر والأندلس, وقد تطور هذا الفن وقفز قفزة
نوعية وذلك من حيث استخدام تربيعات البلاط القيشاني لإبراز الإشكال الزخرفية وإعطائها بعدا اكثر من اللون والبريق, وكان الأندلسيون أول من أسس مصنع أو معمل لتصنيع وتصدير القيشاني إلى كثير من بلدان العالم في أوائل القرن العاشر الميلادي ليكون بمثابة المؤشر القوي على مدى التقدم الذي وصل إليه هذا الفن في العصر المملوكي حيث حرص الفنان المملوكي على إدخال عنصر جديد في زخرفة الجدران والأرضيات وهو استخدام الفسيفساء الرخامية كتلك التي استخدمت بقبة قصر السلطان قلاوون في مصر, كما ظهر استخدام البلاطات الخزفية المزخرفة في تكسيه قمم المآذن والقباب والجدران, ولم يكن العثمانيين بمنأى عن احترام هذا الفن منذ قيام الدولة عام (1517م) ولوحظ ذلك من خلال الشواهد الفسيفسائية بمسجد المرادية في مدينة بروسة.
غير متجاهلين للثورة التي شهدها العصر الحديث في مجال صناعة الخزف والسيراميك تمثلت بإنشاء مصانع متخصصة في هذا المجال تعنى بصناعة المقاسات الصغيرة ومختلفة الإحجام وبأشكال هندسية متنوعة وبألوان مختلفة وضمن تصاميم مبتكرة في مجال عمل الرسومات والأشكال الزخرفية والمناظر الطبيعية التي يتم تجهيزها آليا.
ولإنشاء لوحة فسيفسائية لا بد أن تمر بعدة مراحل تبدأ من إعداد ومعالجة الجدار الذي ستقام عليه اللوحة من حيث معالجتها من الرطوبة بإضافة مواد عازلة مثل البيتومين أو القار أو الراتنج يتبعها طبقة الأساس المكونة من ملاط خشن علما بان الملاط المستخدم قد يكون من الطين (clay mortar) أو ملاط الجبس (gypsum mortar) أو ملاط الجير (lime mortar) آو ملاط الاسمنت من الرمل والجير
تليها طبقة ناعمة ( finer consistency) أما الطبقة الأخيرة فهي طبقة البساط والمكونة من معجون الجير (lime pottery), أما بالنسبة لإعداد القباب للتصوير الفسيفسائي كان يتم تثبيت مسامير قوية ذات رؤوس عريضة خشنة توضع فوقها طبقة الملاط ويتم التصوير باستخدام أسلوبين أما المباشر (direct method) وفيها يتم غرس القطع مباشرة في الملاط حسب التصميم وأحيانا يتم بواسطة الأسلوب غير المباشر (indirect method) حيث يتم إعداد اللوحة بطريقة عكسية على التصميم ,أما الألوان المستخدمة فهي عبارة عن شوائب طبيعية ملونة في الحجر الطبيعي أو اكاسيد ألوان مضافة لعمليات الصناعة.
وتتعرض الفسيفساء للتلف بفعل اجتماع مجموعة من المؤثرات بعضها يندرج تحت مسمى العوامل الطبيعية ميكانيكية (mechanical destructive factors) وما يندرج تحتها من تقلبات الطقس وارتفاع في درجات الحرارة أو انخفاضها أو الصقيع والرياح والرطوبة إلى غير ذلك من العوامل الطبيعية وأخرى كيمائية (chemical decomposition factors) وأخرى بيولوجية (biodeterioration factors) مثل الإصابات النباتية.
وفي نفس السياق وعلى الصعيد الأردني المحلي لابد لنا من ذكر بان أول أرضية فسيفسائية تم الكشف عنها تعود بجذورها إلى الفترة الهلنستية وبالتحديد إلى نهاية القرن الأول الميلادي حيث تم الكشف عن بقايا أرضية فسيفسائية لغرفة ملابس في حمام القصر الذي بناه هرودوس الكبير في
مكاور قرب مادبا, وقد لوحظ التأثير الكبير للحضارات الهلنستية والرومانية والبيزنطية مع القليل من التغير في الأسلوب والتصوير الخزفي الذي تطور من تصوير مناظر طبيعية (أشكال نباتية وحيوانية وادامية) إلى أشكال رمزية هندسية, وقد كشف عن العديد من المباني الدينية التي تؤرخ للقرن الرابع والسابع الميلادي التي تتضمن أرضيات فسيفسائية, ويذكر بان شمال شرق الأردن كانت رافد غني للحجر الجيري متعدد الألوان مما ساهم بظهور هذا الفن بشكل واسع ومتنوع برسوماته والوانة.
ومدينة مادبا الأردنية الملقبة بمدينة الفسيفساء لاحتضانها اكبر مجموعات العالم من اللوحات الفسيفسائية وعلى رأسها خريطة الأراضي المقدسة الموجودة في كنيسة القديس جورجيس للروم الأرثوذكس والتي تعود بتاريخها إلى (560م) والمرصوفة بما لايقل عن مليونين من حجارة الفسيفساء وتمتد حدودها من صور شمالا إلى مصر جنوبا ويظهر فيها القدس وبيت لحم وأريحا ونهر الأردن والبحر الميت ونهر النيل بالإضافة إلى البحر المتوسط وسيناء والجدير بالذكر أن هذه المدينة تحتضن العديد من النماذج الفسيفائية الفنية التي تصور أشكالا متعددة للزهور والطيور والحيوانات بالإضافة إلى مشاهد من الأعمال اليومية كالحرف والصيد والزراعة.
وفي هذا السياق يتحتم علينا أن نوجه خطابنا للمعنيين بماضينا عامه وللمهتمين بفنون الشعوب المغرقة بالقدم خاصة,أن تمنح مثل هذه المخلفات جل الاهتمام لما لها من اثر في تهذيب الذوق العام وتشذيب النفس البشرية والارتقاء بها وتعطينا فرصة للتعرف على آفاق الإنسان الأول بفنونه
وطريقة تفكيره ونمط حياته التي روت لنا جوانب مختلفة منها لتكون بمثابة المرآة العاكسة والمترجم الحقيقي لواقع الإنسان القديم وحتى عصرنا الحاضر, هذا من جانب أما الجانب الآخر فيحتم علينا لالتفات لهذه الجمالية كعنصر سياحي جاذب يمكن أن يستقطب فئة خاصة من السياح المعنيين بهذا النوع من الآثار والفنون بحيث نجد صداه في مختلف جوانب حياتنا المعاصرة فيما لو استغلت بطريقة مدروسة وممنهجه بحيث تعود علينا بالفائدة الكبيرة بصورة ترفع من مستوى الشعوب ثقافيا واجتماعيا وتحسن المستوى المعيشي وتحرك قطاعات الحياة المختلفة, فكم من شعوب وأمم تحتل مكانة عالمية لا يستهان بها في وقتنا الحاضر ولكنها تفتقر إلى مثل هذه المخلفات وتتمنى أن تحظى ولو بالشيء اليسير مما نمتلك لتحيطه بكل اهتمام ورعاية علها تثبت مجدها الحاضر من خلالها ماضيها الغابر.