كنانه نيوز – كتب الصحفي بكر محمد عبيدات
ست وثلاثون عاما مررن على حادثة استشهاد زملاء لي في البحر الميت أثناء دورة الصاعقة التي عقدت هناك لتلاميذ الكلية العسكرية الملكية الدورة الثالثة والعشرين ,,كأنها بالأمس ,,
في ليلة العاشر/ الحادي عشر من شهر آذار من العام 1985 , لم يكن البحر الميت ,هادئا كعادته , بل كان على اوج غضبه وثورانه , الريح هي الاخرى لم تكن كعادتها ,,رياح قوية عاتية لم نألفها من قبل ,,صخور تتدحرج باتجاه الشرق حيث جبل ” عطوة ” تريد التوجه تلقاء زرقاء ماعين عبر الجبال ,خِيَم كنا نقيم بها , لم تستطع حبال مربوطة بها على الرغم من قوتها – والقوة لله – من السيطرة عليها في وجه الريح العاتية .
لم نقوَ على سماع ما قاله لنا المدرب حينما اشار الينا نحن اعضاء دورية راجلة في البحر الميت ,بان زملائنا في ” قارب ” البحر قد استشهدوا , وبلحظات كنا ,,هناك في مكان التدريب ,, طائرات من سلاح الجو الملكي ,,تحلق في المكان دونما فائدة , لم تأتِ لنا بزميل حي ,,او ميت ,اذكر بان احد ضباط القوات الخاصة واسمه الملازم اول”هاني العبادي “حاول ان يأتي بهم , الا ان محاولاته باءت بالفشل , واستمرت المحاولات دونما فائدة ,,فالوضع لم يكن بالسهل مطلقا .
..سيارة لون ازرق سماوي من نوع بي .أم .دبل يو يقودها رائد عرفت فيما بعد بانه الرائد احمد هارون النصرات – عليه رحمة الله – لم يحتمل ما رأى ,,فقام على الفور وأمسك بحبل متدلٍ من طائرة مروحية بالمكان كانت , وذهب لانقاذ زملاء لي بين الحياة هم والموت , قضوا ساعات طويلة وهم يصارعون موج متلاطم في ظلمة حالكة , الا انه لم يفلح ليس تقصيرا او تكاسلا منه , فقد قام بربط نفسه بحبل الطائرة للوصول الى مقدمة القارب الذي كانت الرياح قد أبعدته في عمق البحر الميت ، فقام البطل الرائد الشهيد النصرات بربط القارب بالحبل المتدلي من الطائرة وبدأت عملية السحب باتجاه الشرق ، الا ان قوة الطبيعة كانت اقوى من قوة الحبل ، الامر الذي أدى الى قطع الحبل بقوة السحب وارتداده على رقبة الشهيد النصرات لا انها ارادة من بيده وحده الموت والحياة ,,فاسرعت الطائرة صوب الشط الشرقي للبحر ,, واسرعنا معها نحاول منع جسده من الارتطام بصخر الشط ,,الا اننا لم نتمكن كون الطائرة كانت اسرع منا بكثير .
وعلمت فيما بعد ,بان الرائد الشهيد كان مع مدير مدرسة القوات الخاصة ,المسؤول عن الدورة المقدم – آنذاك – راتب سطعات عبيدات , وأن الاخير كان معه سيارة فوكس فاجن , وأثر الركوب بسيارته الخاصة البي ام دبليو , كونها اسرع من الفوكس فاجن ,, وكأنه قد استعجل الشهادة !!.
وتسارعت الاحداث ,,فطيلة ساعات الليل وغرفة عمليات من قبل القوات المسلحة بكافة اصنافها والامن العام وغيرها من الاجهزة الامنية كانت معقودة ,,هناك في البحر الميت ,, وكان هناك قائد القوات المشتركة الامير زيد بن شاكر وقادة القوات الخاصة اللواء تحسين شردم وقائد سلاح الجو العميد احسان شردم الى جانب العديد من اعلى القيادات في القوات المسلحة , يتابعون الامر على ارض الواقع وعيونهم صوب الغرب ,,ترقب المشهد ,,لعل آت من هناك يبشرهم بقدوم من هم يصارعون الموج والموت
,,احياء.
وعبثا ,,كانت المحاولات التي قامت بها طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي خمسة او ستة في انقاذ ايا منهم , سوى اخراج المدرب الكفؤ الرقيب الاول زياد من منطقة دير ابي سعيد ,,حيا ,وبحمد من الله ,,والبقية استشهدوا في مياه البحر الميت ,, في الوقت الذي بقي فيه الجميع يرقبون المشهد بالم وحسرة وحزن على فراق زملاء لنا بالامس كنا معهم سوية , الا انهم لا يملكون شيئا في هذا المقام ,سوى الدعاء لله بان يرحمهم ويغفر لهم .
في ليلة سبقت ,,طلب منا الضابط المناوب وكان برتبة نقيب ان نقيم مراسم التخرج في الساحة التي تقع بين الخيام وبين الجبال على الحافة الشرقية من البحر الميت , وكان كما امر, وكانت المراسم ,,والتخريج , ولا زلت اذكر كلماته في تلك الليلة , باننا سنخلد هذا التاريخ وسنحفره في اذهاننا , وكأنه كان يقرأ من صفحات مكتوبة أمامه , ففعلا كانت المأساة ,بان رحل واستشهد زملاء لنا واحد اركان القوات الخاصة في تلك الليلة .
هناك تفاصيل كثيرة في الحادثة ,احجم عن ذكرها لاسباب عسكرية واخلاقية ,, الا انني اذكر انه تم منحنا اجازة لمدة ساعات لكي نطمأن اهلنا عننا ,,وفعلا ذهب كل منا الى اهله في مكان سكنه ,,وعدنا الى الكلية العسكرية الملكية ليلا ,, وقد خلت بعض اسرة وغرف من ساكنيها ,وهم من الفصيل الثاني من سرية باب الواد ,,الزملاء الشهداء محمد فيصل القرعان ,وسامي عبد الكريم الزويري واجود بدر القاضي وعلي مداد الطوالبه , وخالد سالم البدارين , وفواز بركات , وحيدر رفيق العتوم ,الى جانب الرائد المظلي الشهيد احمد هارون النصرات .
ولا نملك في هذا المقام ,,الا الدعاء لله بان يرحمهم ويغفر لهم ويعفو عنهم , ويسكنهم مع النبيين والصالحين والشهداء ومن احسن من اولئك رفيقا , وستبقى ذكراهم خالدة في نفوسنا ما حيينا , وبارك الله بمن بقي من زملاء لي , ورحم من رحل عن هذه الفانية.