91
عصا سحرية
بقلم مشرفة اللغة العربية : رانيا عبيدات
عندما تبدأ الكتابة عن شيء عظيم، فإنك تَحارُ من أين تبدأ، لأن جملة البداية هي التي ترسم طريق الكلمات، وتضيء آفاق البلاغة لسائر العبارات. هذا إن كنت تكتب عن أي شيء، فما بالك إن كنت تكتب عن اللغة، لا سيما هذي اللغة الفريدة التي تسمى “اللغة العربية”، لغة السماوات والأرض، ولغة الروح العميقة التي انصهرت فيها أبلغ العبارات، وألطف الإشارات، واختال برونقها الشعراء وافتُـتِن بمحبتها البلغاء؟ فبأي جملة –وأنا أتحدث عن لغتي- قد أبدأ؟ وأي لون من جميل القول قد أصطفي؟
معجزة هي، وليس هناك من معجزات القول سواها، وملهمة أيضًا، وما من سحرٍ حلالٍ إلّاها؛ فهي النقش البديع على حجر الفلاسفة البهيّ، وهي اللحظةُ الفاصلة بيننا وبين والعصرِ الحجريّ، فبها تمامُ البلاغة، ومنتهى الحضارة، وبلوغ النهاية، وبها ختم الله الرسالة.
ومع كل هذا وذاك، يصعب على الإنسان إذا أراد أن يكتب عنها أن يجد الأجمل والأبهى كي يبدأ، فغدا أو بعد غدٍ، ربما يجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا البيان! ولربما تقوم الحرب بينهما على لغة أعجزت كل لسان، ولربما تدخل كائنات أخرى في حرب الثَّـقَـلَين، وقد تندسُّ من الكائنات ما لم تسمعْ أُذُنٌ، وما لم تشاهدْه عين، كل هذا من أجل معجزة تخرج من بين الشفتين، عندها ستعلمون وسيعلمُ الجمعُ سبب القصور عن بدء الوصف، وسبب العجز أمام هذا السحر.
لغتي، هي الأقدم من بين كل اللغات المنطوقة حتى يومنا هذا، ومن بين الألسنة هي الأغزر ولكل المعاني هي الأكفأ، ومن بين كل منطوق هي الأجمل، لذا، فقد تغنى بها الشعراء، وافتتن ببهائها الأدباء، فقد وصفها محمود درويش بقوله:
هذه لغتي ومعجزتي
عصا سحري
حدائق بابلي ومِسلّتي
ومعدني الصقيلُ
ومقدّسُ العربي في الصحراء
يعبد ما يسيلُ
من القوافي كالنجوم على عباءته
ويعبد ما يقولُ
أجل، هي ديدني وخاطري وصورة أجدادي، هي التلّة المرتفعة، والسهلة الممتنعة، سال مدادها على صفحات التاريخ فزادته تاريخا إلى تاريخه، ووضوحا أماط لثام غموضه، لغة ليست للسمع والبصر حسب؛ إنما هي لأحاسيس الوجود، وذبذبة الحياة، هكذا خُلقت مع الناس والأيام والأحلام، ليست كباقي لغات الأرض؛ فلغات الأرض أتت ليُوثّقَ بها كلُّ كلام، أما لغتي فهي الوثيقة، والوسيلة بين السماء والأرض.
ها قد انتهت مساحتي المخصصة، دون أن أدري.. كيف أبدأ؟!