(الوقوف على “أطلال مارادونا”: في عشق “كرة القدم” و”بكائيّات مجايليه”!) / نارت قاخون

كنانة نيوز –

((الوقوف على “أطلال مارادونا”: في عشق “كرة القدم” و”بكائيّات مجايليه”!))

نارت قاخون

كثيرون في العالم هم عشّاق “كرة القدم”، وكثيرون أيضاً من لا يحبّها، بل يكرهها، وكثير ممن يعشقها ويكرهها لا يرى فيها مجرّد “كرة قدم”.
هي “ملهاة الشّعوب” عند بعضهم، وهي “مأساتهم” عند آخرين، هي ملعب “الرّأسماليّة” الكبير عند بعضهم، بيعٌ وشراء، ومليارات تذهب وتروح لتتكدّس في حسابات الأثرياء، مقابل متعة لم تعد مجانيّة لعشّاقها؛ فإمّا أن تدفع للمحطّات المحتكرة، أو أن تسرق منها. لاعبوها رموز جماهيريّة يعرفهم الصّغار قبل الكبار، وتتنافس عليهم الشّركات ليكونوا وجوههم الإعلانيّة.
يتحزّب عشّاقها لأنديتهم ولاعبيهم، ويتحزّب كارهوها عليها كلّها، ويرى بعض كارهيها أنّه “أذكى”، و”أعقل”، و”أحكم”، و”أوعى” من أن تنطلي عليه خدعة “كرة القدم الشّعبيّة”؛ فهي “ملهاة للشّعوب” عن “معاركهم الكبرى”! وهؤلاء عند عشّاق كرة القدم أثقل الخلق دماً وروحاً!
رغم كلّ ما أصاب “كرة القدم” من “تصنيع” و”رسملة” حوّلتها إلى ملعب للرّأسماليّة يمتدّ من مشارق الأرض إلى مغاربها إلا أنّها تحتفظ بكثيرٍ ممّا يبقيها “سحراً” عصيّاً على قهر “الآلات” وجبروتها، فـ”كرة القدم” ليست كـ”السّياسة” و”الأدب” و”الفنّ” الّذي يسهل – نوعاً ما – أن تُصنّع فيه “نجوم زائفة”؛ فالمهارة والّلعب الجميل لا تزالان ضروريّتين لصناعة نجوم كرة القدم، فقد نختلف في أيّ النّجوم أفضل، منذ “بيليه”، و”مارادونا”، مروراً بـ”كرويف”، و”بلاتيني”، و”فان باستن”، و”زيدان”، و”رونالدو البرازيليّ”، و”رونالدينو”، وصولاً إلى “ميسي” و”رونالدو البرتغاليّ”، وربما “نيمار”.
نختلف، ونتحزّب ونتعصّب، ولكن لا تستطيع “آلة الصّناعة الإعلاميّة والماليّة” أن تفرض علينا “نجماً” لا يملك “المهارة”؛ فـ”كرة القدم” تحافظ على تلك الخصيصة الّتي تحاربها “التّصنيعيّة الرّأسماليّة”، وهي قدرتها على “فضح الأدعياء”. وهي الخصيصة الّتي نجحت “الرّأسماليّة” في القضاء عليها، أو استثمارها في تصنيع “رموز السّياسة” و”الدّين”، و”الثّقافة”، و”الأدب”!
في “كرة القدم” منتخبات وأندية عريقة وغنيّة، تحتكر جلّ الّلاعبين الجيّدين، وتحتكر جلّ المشجّعين والعشّاق، فمن يشجّع “المكسيك”، أو “غانا”، أو “نيكاراجوا” إلا أهل تلك البلاد؟ أو مناكفة لمنتخبٍ من منتخبات “الصّفوة” تأييداً لآخر من “الصّفوة” أيضاً؟
أين هي رابطة مشجّعي أندية “فياريال”، أو “هيرتا برلين”، أو “وست هام” خارج مدنها؟
نحبّ كرة القدم، ونعشق منتخباً بعينه، ونادياً بعينه، ولا نعرف لماذا، ولكنّنا نفلسف عشقنا وانحيازنا، كأن نجعله دليلاً على تأييد “الجنوب الفقير” على “الشّمال الغنيّ”، أو “الفنّ والمهارة” على “النّظام والصّناعة”، ونحن نشجّع فرقاً غنيّة، بل غنيّة جدّاً، وكأنّ “برشلونة الكتالونيّة” تعيش على تبرّعات الفقراء المهمّشين من أهل “الجنوب”!
نحبّ “كرة القدم” ويزيد من حبّنا لها نحن “غير الأمريكيّن” أنّها لا تزال “لعبة” خارج “المزاج الأمريكيّ”، فماذا عن أموال “أمريكا”، و”صنّاعها” و”تجّارها”؟ ولكن لا بأس، يكفي أنّها تمنحنا شعوراً بالتّفوّق على “الأمريكيّ” الّذي يعشق “كرة القدم الأمريكيّة” الّتي نراها تطوّراً غير طبيعيّ لـ”مصارعة الثّيران”! نحبّها لأنّها كأدب أمريكا الّلاتينيّة، تستطيع “أمريكا” أن تستثمر فيهما، ولكنّها لا تستطيع الادّعاء أنّها تكتب مثله، أو تلعب مثلها!
“كرة القدم” آخر ما بقي لنا من “دروس الصّبر”، و”حكمة الانتظار”، وعدم اليأس حتى يُطلق “الحكم صافرة النّهاية”؛ نجلس ساعة ونصف، وربما أكثر نتابع مباراة تنتهي بـ”صفر” من الأهداف، نخرج مهزومين بهدفين أو ثلاثة في الشّوط الأوّل، فنظلّ في مقاعدنا ننتظر “الرّيمونتادا”، فـ”كرة القدم” تخبرنا أنّها تحدث، وكأنّنا نتمنّى أن تحدث في “حياتنا” الّتي لا يزيدها تمديد الوقت، ومباريات “العودة” إلا “هزيمة”!
“كرة القدم” تمنح الرّجال والشّباب مادّة لا تنتهي للحديث، والمناكفة، والاجتماع، أنتحدّث عن “الاحتباس الحراريّ” أم “تخبيص الحكومات”، ونحن نعيشها؟
أعظم ما في “كرة القدم” أنّها تمنح “جمهورها” كلّ ما يريده “جمهور”؛ متعة، وتمضية وقت، مادّة للحديث، موضوعاً للمناكفة، فرصةً لإظهار البراعة التّحليليّة، وقوّة التّنبّؤ والتّوقّع، وحسن قراءة مجريات المباريات، والشّتم والمدح وما بينهما، من غير أن نكون جزءاً حقيقيّاً منها بالضّرورة، فتعطينا مسافة الأمان الّتي يقدّسها “الجمهور” ليكون “جمهور مشاهدين”، وعشّاق “كرة القدم” يعرفون ويشعرون ويعلنون أنّ أسوأ ما في “زمن كورونا” هو أنّ المباريات تُلعب بلا جمهور!
“مارادونا” و”ميسي” و”رونالدو” ليسوا مثل “أوبرا وينفري”، فلا مشروعيّة لسؤال “كيف صاروا نجوماً”؟ ولا لسؤال “بأيّ موهبة صاروا”؟ فكلّ الأموال وأضواء الإعلام لا تستطيع أن تجعل لاعباً “نجماً” إلا إن كان يستحقّ ذلك في “الملعب”، أمّا خارج الملعب فللناس فيما يعشقون مذاهب.
قد يقول قائل: منشور طويل عريض في “كرة القدم”! فأقول: هي من آخر ما بقي لنا من “فتنة الصّبر”، و”لذّة التّمهّل”، و”متعة الثّرثرة” في أزمنة تريدنا “على عجل”، “عجَلٍ يدوسنا”، ونحن نتوهّم أنّه يسير بنا!
“مارادونا”، لأجلك كتبتُ هذا، ليس لأنّك أعظم من لعب كرة القدم، ولا لأنّك “صاحب موقف”، بل لأنّك منحتنا سحر الحكاية، و”فتنة الجدل فيك وحولك”، وإغراء “الحنين”، وبكاء الذّكريات، ونشوة الاعتراف السّادومازوخيّ بأنّنا “جيل” يلملم “زمانه”، ويُجهّز أمتعته للرّحيل!
كان “مارادونا” أكثر التّمثّلات جديّة ولهواً لقول بلديّيه “بورخيس”:”أريد أن ألهو بجديّة، كجدّية الطّفل وهو يلهو بألعابه”.