الاندماج النفسي والوجداني في قصيدة ” في لوح محفوظ ” للشاعرة منيه جلال/للأديب هاشم عبدالغني

كنانة نيوز – ثقافة – الاندماج النفسي والوجداني في قصيدة في لوح محفوظ ” للشاعرة التونسية منيه جلال

للأديب هاشم خليل عبدالغني – الاردن

الشاعرة التونسية منيه جلال

     منيه جلال شاعرة شابة  دائبة الشوق والحنين لمـلاقاة  الحلم، مـن اصدق الشعراء جــوهراً وأزكـاهم بجمال روحها تكتب الشعر كي تتنفس ، تواصل الكتابة لكي تواصل الحيـاة  يراودها حــلم الحرية ، والحياة الكريمــة ، شـاعرة ” ترتق بكارة الوجع ، وتلبس الحرف ثوباً حريرياً “.

 تزين نصوصها جمالا، برقتها واناقــة حركاتها الفنية، فنانة مستقلــة متميزة، تشارك بعـــرض منجـزها الأدبي فـي أرقى المــنتديات الأدبــية التـونسية ، وتساهم في محاورة المعطى الجــمالي وطنيا ووجــدانيا. عــمقت تجربتها الذاتية وأغنتها عبر الدراسة الجادة والمنضبطة للأدب.

    سنقوم بتطواف سريع على جوانب معينة وردت في طيات القصيدة، وسنركز الضوء على جوانب لا مرئية في جسدها.

        تبدأ الشاعرة قصيدتها بإشارة ذكية لأناس يحترفون الهمز واللمز ،أناس لا سبيل للسلامة من ألسنتهم ،مهما كنت صادقاً ولطيفاً، مهذباً ومتسامحا ، وعــلى قــدر كبير من الأخلاق والأدب، سوف تجد من يتكلم عنك وينتقص مــن قدرك، ويعاديك ويحــاول أن يؤذيك ويسقطك، فلا تحزن ولا تقلق فهذا طبع كثير من الناس مع الأسف.

     تشير الشاعرة إلى أن بعض الناس يستطيلون ويخوضون في اعراض بعض النساء بغير حق ،دون دليل ودون تثبت ، دون تأكد ، يروجون الإشاعات للتسلية ،يتهمون الواحدة منهن في عرضها واخلاقها وشرفها، يقولون القول ويكررونه ويعيدونه مرات ومرات ، سرا وجهراً ، ينكلون برقتها وكبريائها بكل سادية …. وكأني بالشاعرة تتساءل ، بوعي وجودي جارح ورؤية شعرية ثاقبة ، تعلوها نغمة الأسى ،من قتل انوثة هذه المرأة الجميلة الجذابة ؟..

على شفاه الجموع

تنتحر سنابل أنثاها

يردّدون: سرّا وجهرا

خفية وعلنا 

        ثم تنتقل الشاعرة بتلقائية عذبة محببة ،تنطوي على ايمان عميق بأنها تعبر عن حقيقة وجودية ، فتستدعي ألهه الحب والجمال والرغبة والجنس والخـصوبة والـرخاء ،لدى الــرومان والاغــريق ( فينــوس) بكــل مــا فيها مـن تجسيد لــلأهواء والمشاعـر وهــي مثال للسحــر والفتنة في المرأة  وفي المرة ومن بث للحياة في الأشياء، في محاولة مزج مـن الشاعرة بــين الأحلام والأوهــام وبين ما يحــس ويرى ويقال، وربط خفي بين جمال انثى انتحـر بفـعل السنة النــاس وبين الهــة الجمــال والفتنة ( فينوس ) ، التي اشعلت النيران فـي ذاتها

 ( في عظمتها ورفعتها ومكانتها ) بفعل ميلها للهـو والعبث فـــي فتوتها، ففـقدت صوابهــا وَجُنَت وتصرفــت بطيش مع عشاقها الكثر ، فكلما دعتها صبوة استجابت لها .

      تدحرجت فينوس مـن القمة الروحية، بسبب  انحرافـها وارتخــاء قدرتها على الثبات الروحي الإيجابي، والغرق في بحر الملذات والشهوات ، نظرا لغلبة العلاقات العاطفية على غيرها، وفى النهاية أدى كل هذا إلى مزيد من تضخم الذات لــديها ومـــزيد من الأنانيـة والشره العاطفي أو الجنسي أو كلاهما معا .ً

 تشير الشاعرة بشكل ذكي ، إلى أن تعدد العلاقات العــاطفية لفينوس ، لا يمـكن اعــتباره حبا حـقيقياً ،ولا عـلاقة تواصل نفسي صحي منضبط .

       ألم توصد وتقفل ” فينوس ” بإحـكام كـل رغبة مرجوة مشتهــاه ، فــأصبح الـقــلب بــاهتـاً فــارغاً وغــدت حيـــاتها صندوقاً ” تابوتاً ” لأحلام وخيالات  تحتضر بلا أمل ،تهرول هروبا نحو المجهول ، وتتساءل الشاعرة من الذي جعل  تلك الأحلام والآمال والخيالات قبضة رمـل ناعــمة ؟،تتسلل مــن بين الأصابع بكل سهولة ويسر..

       وتواصل الشاعرة متساءله ، من الذي انتزعها بسرعة واستولى عليها ؟ وجعل أمال واحـلام ” فينوس ” بلا اقــدام  ولا اجنحة ،اليس هو العشق والهوى الذي حـاصرها وسيطر عــلى كيانها وعطــل عــقلها ؟ وحــولها لكـتلة من المشاعر والأحاسيس والعواطف، لا فكاك لها  من أسر العشق .

ألم تحرق فينوس سفن صبوتها؟

ألم تعتل برج الفراق؟

ألم تغلق حقائب الأمنيات؟

مدنها تابوت لأحلام بلا أشرعة

من هزّ عرشها اليوم؟

من اختطفها من قصرها المشيد؟

من أسكنها نيسان العشق؟

       بحيادة تامة توجــه الشاعرة مجموعــة مـــن الأسئلــة الاستفهامية  للمتلقي ، لا ترمي مــن ورائها الحصــول على اجابة ، بل هي اسئلة بــلاغية ،غايتهـا توصيل انــطباع الــى المخــاطب ، يستتر وراء هذا الاستفهام ، كالتقرير ، والنفــي  والاستنكار ، والتعجب ،( إنـــه العــشق الذي فتح نوافذ قلب فيــنوس ، فــالقلب له أكــثر من نافــذة مشرعة، تتسلل منـها نسمات الحب الأمل ،الذي يبعث الفرح والطمأنينة بعــيداً عن الكآبة والإحباط )..

لمن أشرعت نوافذ القلب؟

لمن فكّت ضفائر الفرح؟

من يسكن قصائدها؟

من يعتلي حرفها وقوافيها؟

بصدق واقعي وصدق عاطفي وصدق انفعالي وفني ، تقول الشاعرة “منية جلال :- قلوب العاشقين نور يتلألأ في ظلمة الحياة ، نور يعزف بحروفه على اوتار الروح والعقل ورُودٌ تشع بجمالها وروعتها في جنان القلب ، (قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه غيرها ) قلوبهم  شعلة لا يتوقف ضوؤها، وبدرا يتلألأ في سماء العشق .

وتؤكد الشاعرة بقوة وقناعة ومنطق، بأن ذاكرة(من يستطيلون على اعراض الناس ويخضون بخصوصيتهم بغير حق )، قصيرة المدى، كرمل اطارته الرياح وفرقته .

قلوب العاشقين من نور

قبس لا تنطفئ جذوته

وذاكرة الجموع قصيرة

كما الرّمل تذروها الرّياح  بعد الحديث عن ثرثرة الناس و قصة عشق فينوس الفاشلة تنتقــل ( منية جـــلال ) لإســتراجع ذكــريات خــاصة مكبوتة  بمستوى عال من الإجهاد او الصدمة ، مســتذكرة احلامهــا الإنسانية  وحبها الهارب .. عابرة محيط الذكريات المتداخـلة المتناغمة، معـبرة عــن حــالتها بنقــاء لغــوي وخيال خـلاق  ترتشف قليلا… قليلاً آخر قطرات لــذة الحب ، وأروع ما فيه من سحر وجمال ، بعد هذا المتعة العاطفية المتشظية ، تقول الشاعرة أنها بحاجة لأخذ اجازة من الحب ، إلى حين … فهل ستنعم بإجازتها العاطفية ؟

بالأمس جلست على طاولة الرّحيل

أرتشّف ضوء آخر قمر

وضعت قلبي على درج إلى حين

.

       بعـد هذه الاستراحة الاختيارية ، اخذت الشاعرة تبحث      

عــن مفاتيح خاصــة لكيفــية التعامــل والتغــلب علـى مرارة  العشق ، فمن غمد الصبر شربت ” منية جلال ” جرعة بعد جرعة اقداح الفرح والثبات أمام الشدائد ،فالصبرُ كما يقال : مثلُ اسمه مُرٌّ مَذَاقُهُ  …  لـــكنْ عـــواقبه أحــلى مـن العَسـَل

ومع نسمات الفجر هناك امل جديد ونور وقــوة، بأن ما هــو آتٍ افضل مما  مضى ،أي بداية حـياة وأحــلام جديــدة تطفئ بها الشاعرة وتخمد ظمأ عشقـها، ليرتوي قـــلبها بجرعـــة مــن الثقـــة والأمـــل والأمـــان ، ولكـن رغم الهدنة المؤقتة ومحاولـــة التصالــــح مع الذات ، تعـــود الشاعرة للوراء إلى أيام جميلة عاشتها مع من احبت .

من جفن الصّبر احتسيت أقداح المدام

من ثغر الفجر اعتصرت  قطرات النّدى

أطفئ ظمأ الزّمن الحاضر والآتي

بملعقة من رضاب السحاب

حرّكت عتمة غيابه

اسمع صداه

     تتحدث” منية جلال ” عن الاشتياق لحبيب رحل ، رياح رحيله تهب بشدة ، فتمزق الروح والمشـاعر،للحبيب الغائب شـوقً خـاص يختلفُ عن بقية الأشواق للناس، وتضيف أن القـــلب لـــم يعــد يتسع ، لألــم الشــوق والحنين والـذكريات الجميلة التي غابت بغياب الحبيب . 

يسجرني حبّه كإعصار

ليس للقلب مدارات تتّسع

لعذاباتي النّائمة… المعتّقة

لعذاباتي الحاضرة. المؤجلة

والآتية 

   ثم تنتقل الشـاعرة لتؤكـد للمتلقي بأنها امــرأة تنتمي لجيل يتــسم بالبساطـــة بكـــل معانيـها ، من طيبة وود ، ومسالمة لأقصى حـــــدود ،تقـــول ..اخترت الحــب هوية ونهجاً ، فأنا زليخية العشق ،اشارة إلى الحب الشديد والغرام والافراط في الحب ( في اشارة لقـصة عشق زليخة زوجــــة عــزيز مصر لسيدنا يوسف) . 

انا امرأة………

من نكهة الأمس

العائدة من ألف عام

اعتنقت الحبّ دينا

زليخيّة العشق 

بقالب سردي بلاغي مدهش وعميق تنهي الشاعرة قصيدتها بمشاعر واحاسيس انسانـية متشابــكة متشعبة، فــالشاعرة نــشرت اشرعـــة سفينـــة حياتــها اولا : للتقـوى والإيمــان ومخافـــة الله ، معــلنة التزامها بالمعــايير والضـوابــط التي حددها الدين للعلاقات الانسانية ،كمــا نشرت ثانياً : اشرعـة سفينة حياتها لتعانق وتــلامس ضياء الحياة ، هـذا المفهـوم السامــي ،يضع هــذه العلاقة عــلى مسارها الصحـيح ، التي تتسم بطابع القداسة ، العفة والتقوى .

اشرعت اشرعتي لأنغام السّماء

لكلمات عيسى والنّبيّ

اشرعت اشرعتي للضوء.. للقمر..

للنخل… للسّنابل الخضر

لحمرة الجلّنار

       تنهي منيه جلال نصها ، برأيها في الحب، وموقفها من الحبـيب المجهـول، ترى الشاعــرة أن الصمت في الحب اكثر قــدرة عــلى التعبير عــن الــذات ، ولــه علامات ولغة  بليغة خـــاصة ، فعــــن طريقها يمكن معرفـة مشاعر الطرف الأخر هــل يستطيع الــمرء كتــم عــلامات الحب الصامت بـداخله ؟ التـصرفــات والإشـارات والعــلامــات، تفـضـح دائمـًا مكنون مشاعر الطرف الآخر، لذلك يُمــكنكم معرفــة الحــب دون أن يتحدث الطرف الآخر.

     بما ان الشاعرة تؤمن بالحب الصامت ، فمن الطبيعي أن

تتحفظ على اسم حبيبها ، وتكتبه في لوح محـفوظ ، كــل مــا يكتب فيه يظل مصونا ، يصعـب الــوصول إلــيه ، حــروفـــه طــلاسـم تصعب قراءتها او فك شفرته من الناس العاديين او السخــرة المنجمــون ... وفي هذا المقام نستذكر قصية نزار قباني ” لا تسألوني ما سمه حبيبي “. 

أبلغ الحديث الصّمت في الحبّ

حبيبي اسمه في لوح محفوظ

حروفه تمائم

يجهلها الملأ والمنجّم 

      بنظرة فاحصة ومتأنية نخلص إلى أن قصيدة المبدعــة منيـــه جــلال ( في لــوح محفــوظ) تدعــو لضبط البوصلــة الأخـــلاقيـــة لــدى الإنســان خاصة الصدق الوفاء ،وتطوير الشعور بالذات وزيادة الثقة بالنفس، والاحساس بالمسؤولية  بالمقابــل تدعــو لعــدم إيذاء الآخــرين سواء كـانت الإساءة جسدية أو نفسية.

     كما يتضح أن الشاعرة اتكأت في قصيدتها عـــلى التراث الأسطوري والـديني .. والاقــتباس مـــن القــران الـــكريـــم كمـــا إن لغـــة الــقصيدة متينة متــماسكة ،فصيحة ورشيقة  حد الابهار والدهشة ، كما أفضت للتـساوق والانسجــام بـين الأحــاسيس الفنيــة للمــبدعة، و بين المحتوى الملموس في القصيدة الرائعة .
خالص الود والاحترام  للشاعرة  الخلوقة منية جلال ، على أمل اللقاء في قصائد جديدة .. متمنيا لها مزيدا من التألق والإبداع .