اكتشافات جديدة من العصر الجاهلي(رأي ثالث في سبب تسمية المعلقات) / للباحث أحمد الهزايمة

كنانة نيوز – ثفافة –
 
اكتشافات جديدة من العصر الجاهلي – رأي ثالث في سبب تسمية المعلقات بالمعلقات- المعجم التاريخي للغة العربية- من أجل فهم أعمق.
للباحث أحمد الهزايمة مشرف اللغة العربية
الحلقة( الأولى)
لمَ سُميت المعلقات بالمعلقات؟ أحفظ في هذا رأيين و لي رأي.
قال المتقدمون: سميت المعلقات بذلك لأنها علقت على ركن الكعبة. و هذا الرأي ظاهره حسن, و هو عند التحقيق ضعيف, لأن زمن المعلقات زمن ملاصقٌ للإسلام, و نحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة المكرمة فاتحاً منصوراً بإذن الله، عمد إلى جوف الكعبة فحطم الأصنام وطمس الصور, ولم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم مزَّق أو طمس شيئاً من تلك المعلقات, إذن فتاريخ السيرة النبوية و هو تاريخ كان حريصًا على ذكر تفصيلات الحوادث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم و إنْ دقَّتْ لا يُسند هذا الرأي.
-2-
و قال بعض المستشرقين: إن اصل لفظ المعلقات من (العِلْق) وهو الشيء الثمين . كالمال, والثوب والسيف, جاء في لسان العرب : ” سمي المال عِلْقاً لتعلق القلب به، والجمع أعلاق”.
وهذا الرأي يردُّه علم الصرف ؛ لأن العرب لو أرادت أن تصف القصائد بالشيء الثمين لقالت:” هذه قصيدة عِلْق” و الجمع ” هذه قصائد أعلاق”، ولا تقول” هذه قصيدة معلقة ” وهي تريد العِلْق؛ لأن العِلْق زِنَةُ فِعْل و(فِعْل) صيغة بمعنى اسم المفعول نحو ذِبْحٌ أي مذبوح, و طِحْنٌ أي مطحون, و طرح أي مطروح وليس من أسلوب العربية أن تأخذ اسم المفعول نحو قولك: ” معلقة ” من صيغة أخرى تدل بنفسها على اسم المفعول .
😚
فإن قيل: فما أصل لفظ المعلقة؟ فالجواب : إني لا أعلم غير موضعين ذكر فيهما لفظ
” المعلقة ” أحدهما: في قوله تعالى:(فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) (النساء 129) وثانيهما في قولهم :” هذه معلقة امرئ القيس، وهذه معلقة طرفة …. إلى آخر ذكرهم للمعلقات وأصحابها.
و الموضعان بينهما شبه واختلاف, أما الشبه فهو أن (المعلقة) في الموضعين اسم مفعول واسم المفعول من الصفات والصفة لا بد لها من موصوف، أما وجه الاختلاف في الموضعين فهو في ماهية هذا الموصوف الذي جاء لفظ (المعلقة) وصفاً له.
-4-
جاء في لسان العرب:” العَلَقُ: اسم جامع لجميع آلات الاستسقاء بالبكرة, ويدخل فيها الخشبتان اللتان تنصبان على رأس البئر ويُلاقى بين طرفيهما العاليين بحبل, ثم يُوتَدان على الأرض بحبل آخر يُمَدُّ طرفاه للأرض, ويُمَدَّان في وَتَدَيْن أُثبتا في الأرض, و تُعَلَّقُ القامةُ, وهي البكرة في أعلى الخشبتين ويُسْتَقى عليها بدلوين يَنْزِع بهما ساقيان”.
ذكر القرطبي : قوله تعالى : (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) ، أي : لا هي مُطَلَّقة ولا ذات زوج . وهذا تَشبيه بالشيء الْمُعَلَّق مِن شيء ؛ لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما عُلق عليه انْحَمَل.
قلت: الأصل في (المعلقة) التي في الآية الكريمة، أنها صفة للدلو التي علقت من حبلها بالبكرة ثم تدلت في فراغ البئر فلا هي في قعره، ولا هي عند رأسه، ثم استعيرت صفة الدلو وهي (المعلقة) إلى المرأة التي لا هي ممسكة ولا هي مطلقة. و لفظ المعلقة قي الآية الكريمة مشعِرٌ بذم فعل التعليق، لذلك جاء النهي عنه.
-5-
أما لفظ المعلقة في قولهم :” هذه معلقة امرئ القيس” فلفظ مشعِرٌ بالمدح، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟ فالجواب: جاء هذا الاختلاف من اختلاف الموصوفين، فالمعلقة في الآية الكريمة هي الدلو كما مر بيانه، أما المعلقة التي في قولهم :” هذه معلقة امرئ القيس” فهي الثريا التي في السماء. فكيف كان هذا؟
إنك تعلم أن امرأ القيس هو شاعر المعلقات الأول؛ ذلك أنه قد وضع للشعراء طرائقَ ساروا عليها واتبعوه فيها، من الوقوف على الطلل، والرحلة وذكر النساء ولعلك سمعت قول امرئ القيس في قصيدته ” قفا نبكِ” وهو يقول:
ألا أيها الليل الطويل ألا انْجَلِ
فيالك من ليلٍ كـأن نجومـه
كأن الثريـا عُلِّقت في مصامهـا
بصبحٍ، وما الإصباح منك بأمثَلِ
بكل مُغـار الفتل شدت بيَـذبُلِ
بأمراس كتـانٍ إلى صـُمِّ جَنـدَلِ
انظر إلى الصورة الأخيرة ” كان الثريا عُلِّقت في مصامها” وهي صورة لم يُسبق إليها امرؤ القيس، ولهذا فقد أُعجب الناس بهذه الصورة الغريبة الجديدة ذلك أنه لما ذُكِر (المَصام) وهو مربط الفرس، فمآل الحال أنه يشبه الثريا بفرس جموح قُـيــِّدت في مربطها بحبال كتان, ثم ربطت هذه الحبال إلى صخرة ثقيلة لكبح حركة الفرس ومنعها من الانطلاق. وقد أراد الشاعر من هذه الصورة التي توحي بالثقل والبطء أن يُصور ثقل الليل عليه وبطء حركته .
ومن ثَم فمن أجل هذه الصورة الغريبة الجديدة سموا قصيدة امرئ القيس التي مطلعها ” قفا نَبْكِ” بقصيدة (الثريا المعلقة)، ثم صارت صفة (المعلقة) اسـم عــلم على قصيدة امرئ القيس فصار أحدهم يقول لصاحبه ” أنشدني معلقة امرئ القيس” .
-6-
ثم تتابع الشعراء من بعد امرئ القيس كلٌّ يريد أن يأتي بقصيدة على نهج قصيدة امرئ القيس التي مطلعها ” قفا نبك” أو قل التي صارت تسمى بالمعلقة. فجاء طرفة، وزهير، ولبيد, وعمرو, وعنترة, والحارث, والأعشى, والنابغة, وعبيد, فنظم كلٌّ منهم قصيدة على نهج قصيدة امرئ القيس في الطول والحسن, فلما رأى الناس هذه القصائد, سموا كلّ قصيدة من تلك القصائد بالمعلقة: فقالوا: معلقة طرفة, ومعلقة زهير … وهكذا.
وهذه التسمية من جهة تشبيه قصائدهم بقصيدة امرئ القيس المسماة بالمعلقة . فمجمل الأمر أنهم حذفوا المشبه وهو ” قصائدهم” وصرحوا بالمشبه به وهو “المعلقة” على سبيل الاستعارة التصريحية .
ومجمل القول: إن (المعلقة) اسم مفعول نقل من الصفة إلى العلمية على قصيدة امرئ القيس, ثم سميت كل قصيدة من قصائد التسعة الباقين بالمعلقة من جهة استعارة الاسم الذي غلب على قصيدة امرئ القيس, وعلة الاستعارة أنّ القصائد التسع أشبهت قصيدة امرئ القيس في الطول والحسن.
-7-
 وغير خفي أن العرب قد تسمي الشاعر بكلمة وردت في شعره كما سمت المُرَقِّشَ بهذا اللقب لقوله :
الـدارُ وَحْشٌ والرسـوم كمـا رَقَّش َفي ظهـر الأديـم قَلَـمْ
إذاً فليس غريباً أن تسمي العرب قصيدة امرئ القيس التي مطلعها (قفا بنك) بالقصيدة المعلقة من أجل كلمة وردت فيها وهي قوله (كأن الثريا عُلِّقت).
فإن قيل:فلِمَ لم يلقبوا امرأ القيس (بالمُعَلِّق) ؟ فالجواب :لأنهم جاؤوا بالمعلقة على الصفة للثريا , ثم استقلت الصفة بنفسها فنزلت منزلة اسم العلم.
المصدران: كتاب “علم أصول معاني الألفاظ ومجازها” ، وكتاب” الأوليات، العرب والأدب والإسلام والجاهلية والشعر” لأصيل الصيف الأصولي.