قد تكون ثمة أضغانٌ وإحَنٌ بين أفرادٍ من الشعوب العربية لشعوبٍ أخرى، وهذه الأمراض لا ضمانة لعدم حدوثها، من أيّ طرف، لكن الذين يستدعون تلك الأضغان، أو يستبقونها في مركز تنبُّههم الدائم، لا يخلون من مَرضٍ، وسطحية، وضيق أفق.
مناسبة هذا الكلام الترويج لوَسْم على تويتر، بعنوان «فلسطين ليست قضيَّتي»، وهذه ليست أول مرَّة ينطلق فيها هذا الوسم، إذ سبق له أن رُوِّج في عام 2015، هذا الشعار الذي يراد به التمهيد الشعبيُّ للتطبيع مع كيان الاحتلال، ويهدف إلى تكريس التنصُّل من المسؤولية تجاه فلسطين؛ لينتقل ذلك من حكَّام خليجيِّين إلى شعوبهم، ولا يمكن لهذه الحالة المستغرَبة أن تطفوَ على السطح، لولا استعانة القائمين عليها بمشاعر الكراهية الناجمة، لدى البعض عن تصوُّرات خاطئة، أو مُضخَّمة، عن وجود حسدٍ وحقْدِ من العرب، (والفلسطينيون منهم) تُجاه الخليجيين؛ لما حباهم الله به؛ من ثروات نفطية، أدّت إلى طفرة اقتصادية، وحالة من الرفاهية الملحوظة، مع أننا نعلم، ولا يخفى على منصف، أن تلك الرفاهية لا ينعم بها كلُّ أبناء الدول الغنيَّة بالنفط، فنِسَبُ البِطالة في السعودية، مثلا، (وهي الأغنى نفطيًّا)، والفقر، يلحظها كلُّ مَن زار المملكة، فضلًا عن التقارير الكثيرة.
وقد تتغذَّى مثل هذه الحملة الجَهُولة من تصرُّفات بعض الفلسطينيين، أو مواقفهم السلبيَّة، بما تشتمل عليه من متاجرة بالقضية الفلسطينية، وغير ذلك، وبالطبع، ليس الفلسطينيُّ نبيًّا، والشعب الفلسطيني كسائر الشعوب، معرَّضٌ لوجود ضعفاء النفوس، ولكن تلك الحالات السلبية لم تنجح في شَرْعَنة سلوكاتها الذميمة، ولا في إرساء قيمها. وهذا الاتجاه نحو البحث عن حالات سلبية، إنما أيضا يدلُّ على مآرب مُبَيّتة لدى الباحثين؛ وماذا يريدون من وراء ذلك؟ القول بأنَّ أصحاب القضيَّة تخلَّوْا عنها، فنحن أولى بالتخلّي، وكأنها عبءٌ ثقيل يسارعون إلى إلقائه عن ظهورهم، علمًا بأن فلسطين لا تكبِّدهم حاليًّا أثمانًا كبيرة، من أيّ نوع، اللهم إلا إن كانت على شكل مساعدات مالية، تلقى شكرًا وتقديرًا من السلطة الفلسطينية، وهي مساعدات تنسجم مع الخطوط العريضة الدولية والأمريكية. وفي محصِّلة ما سبق، تقوم المغالطة: «السعودية أولا»، مثلا، مستدعيةً التنصُّلَ من واجب نصرة فلسطين. وعلى هذا الوتر الهجين يلعب الصهاينة، ويغذُّون تلك الأوساط المُهَلهلة الوعي والانتماء.
نحن على أعتاب مرحلة خطيرة، وهي تنفيذ أخطر ما في صفقة القرن، وهو الضمُّ والإجهاز على الضفة الغربية
وإذا لزم التمثيل بالإعلامي الصهيوني إيدي كوهين، الذي يحكُّ لأولئك المُغَرَّر بهم على بيتِ جرَب، جاعلًا من نفسه رجلًا من أهل البيت، يهتمُّ بمصالح العرب والخليجيين، وينصحهم، ويحذرّهم، من الفلسطينيين، وكان يجب أن يكون هذا وحدَه كافيًا؛ لنفور الجميع من تلك الطريق المُفضِية إلى مناصرة الصهاينة، على نحوٍ سافر، والتجنُّد في مشروعاتهم الخبيثة.
يأتي التوقيت، ونحن على أعتاب مرحلة خطيرة، وهي تنفيذ أخطر ما في صفقة القرن، وهو الضمُّ والإجهاز على الضفة الغربية، حوالي أربعين في المئة منها تنوي حكومة الاحتلال فرض سيادتها عليها، الصيف المقبل، بحيث تترك المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية عبارة عن نقاط متناثرة ومحاصرة، وبالتوازي، تكثِّف حكومة الاحتلال تنفيذ مخطَّطها الاستيطانيِّ الذي بدأته عام 2017؛ لإرساء تجمُّع استيطانيٍّ كبير، تعتمده حكومة إسرائيل، كحلقة وصل بين التجمُّعات الاستيطانية التي تحيط بالقدس، وتلك التي أقامتها الى الشمال في الضفة الغربية. هذه المخططات المصيرية الوشيكة التنفيذ لا يقتصر ضررُها، كما هو معلوم، على الفلسطينيين، ولكن تتعدّاها إلى دول عربية مجاورة، وأوّلها الأردن، وإذا فقد الأردن استقراره، فالمملكة العربية السعودية المجاورة لن تكون في منأى عن تداعيات ذلك. وبصفة عامة، لا يمكن الوصول بالشعوب، أيِّ شعوب إلى حالةٍ من النقاء التام، ونفي الإِحَن تماما. وهذه لم تمنع دول أوروبا مثلا من تحقيق الوَحدة الأوروبية، والقفز فوق خلافاتها التاريخية، بزخم المصالح والمصير المشترك، أو المتقارب. وبين الأوروبيين من الحروب والتدمير المتبادل والدماء، ما ليس بين الشعوب العربية، بل بيننا من تجارب النضال المشترك أكثر مما لدينا من الخلافات.
وفي صميم الشعوب العربية توحُّد طبيعي؛ كون أبنائها اصطَلَوْا بالظروف نفسها، وفي جوهر تكوينهم القيم المشتركة نفسها، والتركيبة السيكولوجية متشابهة في العمق، حتى بين أكثر الشعوب تمدُّنا وأكثرها أصالة.
ولعل أخطر ما يعانيه أولئك المنفصلون ليس عن فلسطين، أو الفلسطينيين، بل عن الأمة كلها، تلك العزلة الشعورية، واضطرابات الهُويَّة، فمن هم، بعد ذلك؟ هل هم عرب؟ لا يستقيم ما هم عليه، وأخلاق العرب ومروءتهم، ونصرتهم المظلوم، أم تراهم صدّقوا أنَّ المحتل الصهيوني ذا القوة العاتية عسكريًّا، والمدعوم من الدول الكبرى، بمشروعه الاستعماري التوسُّعي، حتى يطال السعودية نفسها، ودول الخليج، أضحى هو المظلوم؟ هل هم مسلمون؟ لا يستقيم أيضا ما هم عليه، والإسلام الذي جعل ارتباط المسلم بأرض الإسراء والمعراج، ارتباطا عقديًّا، ثابتا. أم تُراهم، أو تُرى بعضهم، يهوي بقلبه إلى أن يكون صهيونيا، علمًا بأنَّ الصهاينة لا يقبلونه بينهم، وإنما يريدونه مجرَّد صدى يردِّد دعاواهم الكاذبة من قلب بلاد العرب، ومن جوار الكعبة المشرَّفة؛ ذلك أن هذا الكيان طافحٌ بالعنصرية، حتى داخل مكوّنات يهودية في داخله، فكيف بعرب ومسلمين؟
وأخيرا، نحن نعلم أن هذه فئة هامشية، انفعالية، سطحية، لا تمثل أهل السعودية، ولا الخليجيين، بل إنها تلقى استنكارا واسعًا من سعوديين أصلاء، وشرفاء، كما أننا نعلم أن هذه الحملة قد تشتطُّ في مواقفها، أكثر مما هو موقف الدولة الرسمي، والمعلن، ولكن يبقى السؤال المهم، والملحّ؛ عن موقف الدولة السعودية، بإعلامها وقوانينها؟ عن هذه الظاهرة المحدودة، أم تراه يندرج في حرية التعبير؟ وهي الحرية التي لم تتسع لسواهم.