الســـر …. (نصٌ هلامي يحبني وأحبه)/أكرم الزعبي

الســـر …. (نصٌ هلامي يحبني وأحبه)

أكرم الزعبي

(…….)

يبتدئ السر بالسكون، للسكون جلالهُ، للجلالةِ مهابة الحضور.
الحضور قطعة لحمٍ تدور حول نفسها خارج حسابات الزمان والمكان، كل شيء ساكنٌ وصامت، خلا اهتزازاتٍ بسيطةٍ بفعل الحركة، يقتلُ السائل المحيط صوتها، داخل كرةٍ وتكوير.

تسعُ شهورٍ تتداعى فيها الآفاق، المطلقُ والّلامحدودُ يغدو مدركاً، والغيبيات منها يكون الخلق، ترى ما ترى، وتعرف ما تعرف، تضغطُ على اللسان غير المكتمل لينطقَ فلا يفعل، تحاول الانتفاض ولا فائدة، هذه الكرة المغلقة -عالمك، وفضاؤك الأرحب من أي فضاءٍ- لك وحدك.

السر في هذه الكرة يحتفظ بكينونة وجوده معك، منتمٍ إلى الجذور التي خُلق منها، لكنك تتركه وتخرج بعد حينٍ وهو باقٍ يأبى الخروج، ينتظر قطعة لحم أخرى يكون لها ولا يكون.

ها أجلك الأول يأتي، تدفعك الكرة خارجها بقوة، وبقوة أكبر تشعر بشيءٍ ما يسحبك، تصرخ، يقولون صرخة الميلادِ وتصرخ، تصرخُ لأنك تركت السر وخرجت وحدك.

(…….)

كبيراً بدأت حياتك ثم بدأت تصغر، تتعلم أبجدية أحرفهم وتنسى ألف باء السر، تنطق اسمك لأول مرةٍ بلغتهم ويضيع مفتاح السر، تتغيّر ملامح الذاكرةِ بعد أن قاموا بحماقتهم بمسح الذاكرة الأولى.

تحاول التمرد على هذا الجديد الغريب، لكنهم أقوى منك … الثورة/البكاء، تقابلها نظرات الاستنكار، والتمرد/الصراخ … يُقمع بحلَمة، ثمّ ترضخ لهم.
آنَ خطوتَ أول خطوةٍ تعالت أصواتهم فرحاً وتصفيقاً، وقعت أرضاً، بكيت، نظرتَ في أعينهم بعينٍ تسبح في الدموع ولا تغرق، حاولوا إيقافك من جديد، أفلحوا وسقطت أنت، وها أنت تركض في أرجاء البيتِ تلعب بهذه اللعبة وترمي تلك، وكأنك ما دريتَ بأنك لعبتهم الجميلة.
عجينةٌ سهلة التشكيل بين أيديهم أنت، صبّوكَ في القالب الذي شاؤوهُ حتى إذا أخذتَ ملامحهم رموك في فرن أفكارهم وجفّفوك بالشكل الذي أرادوه.

(…….)

شيءٌ ما في داخلك يتلوّى، يلتفُّ أفعى تنفث سمومها فيك، تسري العصارةُ رويداً رويداً حتى إذا استحكَمَت في كل خليةٍ حبكت الحمى خيوطها وبدأت تتخبط.
يسرقك النوم تعباً وإعياءً، هنا وجهُ جميلٌ، وهناك صدرٌ مستديرٌ تراه لأول مرة …. الله الله، ما أجمل الحقيقة عاريةً دون أقنعة.

تحاول ربط الصورتين ببعضهما فلا تستطيع، وجه، اثنان، ثلاثة، وصدرٌ واحد يتعلق هنا تارةً، وتارةً يستريح هناك، تتمازجُ الصور لتشكّلَ امرأةً في أبدع تكوين، تقتربُ منها، ترتفع الحرارة، ينتفض جسدك كله، يهتز العالم ويتساقط بين يديك فترمي بركانك فيه… فليحترق كل ما في الوجود في هذه اللحظة.
تصحو من نومك مرتبكاً، رأساً إلى المطبخ، إلى قهوتك المجنونة، القهوةُ والماء فقط يشكلان حالةً عذرية، بكارة ما مُسّت بسوء، السكّر يُفقد القهوة عذريتها وأنت تحبها عذراء بنكهة السيجارة.

(…….)

بجانبك امرأة تتمدد على السرير، إلى يمنيها طفلٌ مارستَ أمراً بكينونته فكان، هو أيضا كان يعرف السر لكنك سلبته هذه المعرفة استجابةً لمشاعر مبهمة لا تدري كنهها ربما، وربما انتقاماً ممن سلبوك ذات السر يوماً ما.

تراودك فكرةُ الهروب عن نفسها، تهمُّ بها وتهمُّ بك، ترى برهان ذاتك فتعود إلى نفسك أو … إلى بيتك، حاملاً لعبة للعبتك، ومحاولا رسم ابتسامة لزوجتك.

الأيام حبالى والحمل كاذب، دائماً يتفتق المخاض عن لاشيء، الآمالُ أزهارٌ صحراوية تولد لتموت، لا غيم في السماء ولا ماء على الأرض، المدى بينهما خطوط من الشمس يبتلعها الظلام، حياتك ما كانت لك يوماً، وربما لن تكون.

تدور الدائرة حول نفسها مرةً أخرى وتُردُّ إلى أرذل العمر، أحفادك يلتفون حولك، أبناؤك من بعيد يتغامزون: “شوفوا شوفوا… الختيار خرّف… رجع مثل الأولاد الزّغار”.

تكظم ضحكة، حقاً … هم لا يعرفون.

(…….)

ها أجلك الثاني قد أتى، وها أنت في السكون، مرّةً أخرى تعود إلى السكون، ترى من عهدٍ مضى أنّ للسكون جلاله، للجلالة مهابة الحضور.
الحضور قطعةُ لحم هامدة لا تتحرك داخل حسابات الزمان والمكان، هنا فقط تعرف أنّ ما يدخل في حساب الزمن من حياةٍ إن هو إلا وهم، وما يخرج منها بموتٍ إن هو إلا حقيقة، ما بين السكونين كان انقطاع السر، السر الذي تقت إليه كثيراً ها أنت تعود إليه، المطلق والّلامحدود يعود مدركاً، والغيبيات ترجع علماً، السر الآن أكثر اكتمالاً من ذي قبل، لا بل هو كامل الاكتمال، تحرّكُ اللسان فتنسابُ الكلمات انسياب الماء من مرتفع، تُسالُ فتيجب بطلاقة، السجن بجدرانه الستة ضيّق … لا حاجة للحركة … عالم العقل فضاءٌ بلا حدود، ورؤيا لا تدرك الأبصار نهايتها.

السر يعود إلى مكانه، هو دائماً منتمٍ إلى الجذور التي خلق منها، وها هو يعود إليها لكن دون كرويةٍ وتكويرٍ وسائل، تدخل أنت والسر يتبعك، لا ينتظر قطعة لحمٍ أخرى ليكون لها، لا … فالديدان تستبيح اللحم، تأتي عليه من يمينه وشماله، من أمامه وخلفه، ومن فوقه ومن أسفل منه، الديدان تأتي على كل شيء … إلا السر.