مبتدأ وخبر
د. هاشم غرايبه
المبتدأ: حط برغوث على رأس أحدهم، تجول قليلا فلم يجد ما يريده، ولما تهيا للقفز الى مكان آخر، رأته قملة متشبثة بأصل شعرة، فقالت له: لم تتقافز من مكان لآخر..إبق هنا فالخير وفير، فرد عليها: أوتعتقدين أنك باقية طويلا في هذا العز، فما أبقاك سوى قلة نظافة صاحب هذا الرأس، عما قريب سيغسل شعره، وعندها ستطردين شر طردة!.
الخبر: في مقطع مصور منشور يظهر أحد رجال الأعمال الخليجيين وهو يدعو الى التطبيع مع الكيان اللقيط، ويقول: يمكن إقامة علاقات نافعة مع هذا الكيان والتعايش السلمي معه، فلا يعتبره عدوا طامعا بل صديقا، والعدو الذي يجب الحذر منه هو إيران!.
وفي اجتماعات إتحاد البرلمانات العربية ظهرت نبرات تطبيعية عند بعض الأنظمة التي لم تقم علاقات ديبلوماسية معلنة مع الكيان بعد، ويبدو أنها تمهد لذلك، وكانت تسعى لإصدار بيان يجيز ذلك الأمر، فقد قال رئيس وفد خليجي إن مواقفنا يجب أن تكون منسجمة مع المواقف الرسمية لدولنا، فرد عليه رئيس الوفد الأردني: إننا نمثل الشعوب العربية وليس الحكومات، وشعوبنا جميعها ترفض التطبيع، ويجب أن تكون قراراتنا منسجمة مع قناعاتها.
منذ بداية الألفية الثانية شهدت أقطار الأمة تحولات في بعضها، ترافقت مع انقضاء عهد الحكام الذين عايشوا مرحلة نشأة الكيان اللقيط وسكتوا عن احتلاله للجزء الثاني من أرض فلسطين، وكان جيلا انهزاميا بامتياز، لم يحقق نصرا ولا أبقى للأمة عزّاً، ووجد الشعب بعد من أسقطتهم ثوراته، أنهم جميعا يشتركون في خصلة واحدة وهي أنهم جمعوا ثروات طائلة، أما من لم يسقطوا بعد فما زالت ثرواتهم مجهولة.
عندما جاء جيل الحكام الأبناء، كانوا قد ربوهم في مدارس الغرب، التي أفرغت نفوسهم من قيم الأمة، وأنشأوهم على ثقافته النفعية، وقيم تعظيم قيمة المال فقط، فتسلموا الحكم وهم يتشوقون للثراء الفاحش ليس إلا.
ولما كان الكبير لا يحتاج لإثبات أنه كبير، أما الصغير فيريد أن يبدو كبيرا، لذلك تقرب الى هؤلاء الحكام الذين آلت إليهم الأمور قبل نضجهم، فئة الإنتهازي، يعرف نقطة ضعف الحاكم هذه، فيتملقه أنه ذو رؤية ثاقبة، بل ومتفوق على سلفه، فيقرب هؤلاء ويبعد أصحاب الخبرة والكفاءة الكبار، بحجة أنه يريد أن يعطي دورا للشباب!، ذلك يفسر الإنحدار السريع في المكانة السياسية للأمة، متزامنا مع تفشي الفساد وسوء الإدارة، فأدى الى ما نراه الآن من تخبط وفشل شامل على كل الأصعدة.
ولمّا لم يكن لجيل الآباء إيجابيات تذكر، فقد ورث هؤلاء عنهم كل سلبياتهم، ومن شابه أباه فما ظلم، واولها نظرية أن بقاء الحاكم أو استبداله بيد أمريكا، وثانيها أن أفضل وسيلة لنيل رضى أمريكا هي التقرب من الكيان اللقيط، وثالثتها أن الحكم استثمار وليس خدمة، لذا فالهم الأول تكديس الأموال في الخارج، فلا أحد يضمن بقاءه على سدة الحكم.
لذلك كان تطبيع الأنظمة العربية جميعها وبلا استثناء مع العدو معيارا لذلك التقرب المذل، وانسجاما مع هذه القواعد الموروثة، فالأنظمة (المعتدلة) اللصيقة بكيانه تسابقت على التطبيع مبكرا وألزمت أوطانها به من خلال اتفاقيات إذعان (كامب ديفيد ، وأوسلو ، ووادي عربه)، فيما المعتدلة غير المحاذية له فكان تطبيعها غير معلن، وتنتظر الفرصة السانحة لإشهاره، أما النظام الممانع الوحيد، فممانعته حرد من عدم شموله بمظلة التأمين الأمريكي على البقاء، لذلك فتطبيعه يتم بالوكالة من خلال طرف ثالث.
هذه الحالة هي التي أبقت هذا الكيان آمنا مطمئنا طيلة هذه السنين، رغم أنه دخيل على الجغرافيا والتاريخ، فلا ارتباط له بالمنطقة، فمنشؤه أوروبي وثقافته غربية، ولا يمكن أن يكون انتماؤه شرقيا مهما طال به الزمن.
فهو كتلك القملة، متشبث بالشعرة، لكنه غريب على محيطه، ولا يمكن أن يكون جزءا من فروة الرأس، ما أبقاه هو البيئة الوسخة…عندما تتحول الى بيئة نظيفة سيطرد شر طردة.