قريتنا القديمة ” جدارا – أم قيس ” / بقلم الدكتور أحمد الشريدة

كنانه نيوز – 

قريتنا القديمة ” جدارا — أم قيس “

بقلم الدكتور أحمد الشريدة

معلقة في براري الغيم ، موغلة في بؤرة الماء ، لم يحن بعد لالتقاطها أو الاستماع لنومها الجميل فوق سرير السماء …
الأصدقاء… يشتمون أسماء قراهم ، ويستمعون للذكريات التي خربوشها على الجدران ، يستمعون للسنابل القديمة ، للشبابيك التي طلت الحبيبات منها … وحلقات السمر في حاراتها ، ومنازلها ، وأسطح بيوتاتها ، وعلى يبادرها ….
تدمع عيناي الآن …
كان لنا كل هذه الذكريات …. اخبرني عنها جدي ووالدتي والحاج سليم ، لكني أتفاجأ اليوم بأنني لا احد … لا ذكريات لقلبي… ولا مظلات تنتظرني في “جدارا “.
قريتنا لم تعد تلوّح لي ببيت أهلي …..
ولم تعد النيران تصطبر تحت الرماد لحين عودتنا .. وجدي لم يعد .. لم يعد بيته …. حلمه ….
تبعثرت أغاني الفلاحين … وعرق الصابرين في حقول شمس تموز….!!
وعرقهم مات من شدة الحزن ، كل شيء كان ينتظر العودة للبيوت الآمنة المطمئنة …
البيوت…. التي تضيء دواخلها بنور العلم والمصابيح … وبالغناء الرخيم وتعدد أسماء ساكنيها … والعاشقين…. وأشجار التين والزيتون ….
أعشاش الطيور التي وقفت على الشبابيك في انتظار رائحة الريش وتزاوج السماء والغيوم التي ظلت تطل على بئر القرية وتصيخ السمع لأصوات صغار قد يولدون اللحظة .
” عقلة الحامد ” كان حزينا حين ابلغني بموات قريتنا…. ونضوب نبع القرية …. وجفاف الأغاني على صدور أمها ، وارتجاف الكاميرا التي كانت في يده ، لكنه لم ير وجه العجوز الحاجة كرمه الذي أوغل في الحزن … أنا الآن فقط قد خرجت من “جدارا” ، غير عابئ بالمسميات الكثيرة التي شنشلت صدر ذاكرتي …” والكوشان ” الأخضر الذي أرغموا والدي على أخذه ليذهب هناك بعيد عن مرابع الصبا والطفولة …
التراب هو الوحيد الذي ظل صادقا وعفيفا..
وهو الذي يحفظ الوجوه بعيدا عن الزيف، والابتسامات المقنعة ، بعيدا عن صخب الطاولات ….
هنا رائحة لا يفسدها احد …….
ساحة القرية؛ وأزقة حارتها الضيقة و طابون قريتنا ؛ وبئر الماء هناك في آخر الوادي ، وهنا تعثر” خلف” خلف حبيبته ” فاطمة ” وهناك مدرسة القرية ما يزال التراب يحمل رائحة القران الكريم ، والأصوات الصغيرة التي أخذت تحلم قرب خوذ الجنود المرابطين قبالة طبريا والجليل والجولان وحرمون ، ما يزل تراب قريتنا حالما بنا ورطبا بالذين قاتلوا عليه والذين عشقوا وسقطوا شهداء بل أحياء عند ربهم يرزقون ..
أراهم الآن خيالات يمتدحون خصب سنابلهم .. وينهرون على رائحة السهل الأخضر فيخفض زنبقه وسوسنته السوداء .. إنهم ما يزالون على بصمات التراب ، وأنا امسك حلما صغيرا كجورية تجرح كف يدي.. لكنني امسك على دحنون قريتنا التي يربض الآن على أعاليها تلتها ( أم قيس الجديدة ) حيث غابة الاسمنت التي شوهت آثار قريتي” جدارا المقدسة “.

خواطر : محمود شاب أردني ولد وترعرع في القرية العثمانية داخل مدينة جدارا الأثرية ، في العام 1981 طلبت الحكومة الأردنية من سكان القرية مغادرتها حيث أقامت لهم إسكاناً حديثاً ؛ يروي محمود ذكرياته أيام سكنه في القرية العثمانية من خلال هذه الخواطر الوجدانية .

* جدارا : هو الاسم التاريخي لمدينة أم قيس ( امكيس ) الحديثة .