ماذا بعد الوصول الى الحائط!؟ / د. هاشم غرايبه

ماذا بعد الوصول الى الحائط!؟

د. هاشم غرايبه

وكما هو متوقع، فقد عاد المحتجون الى التظاهر من جديد، بعد أن انتظروا ستة شهور أن تنضج الحصى التي في القدر – كما وعدتهم الدولة- بلا جدوى، هم لم يكونوا مغفلين لينتظروا نضجها، لكنهم أرادوا إعطاءها فرصة، كما يطالبهم عادة بعض مدعي الحرص على الوطن، وهم يدركون أن الأمر مجرد مماطلة لتأجيل الإصلاح أكثر.
المشكلة الحقيقية في هؤلاء (الحريصين) على الأمن والأمان، فهم يعلمون الدوافع الحقيقة لهذه الإحتجاجات، لكنهم من أجل تقزيمها، يبدأون في تصغير المشاكل، فيتساءلون هل هي بسبب المشاكل الإقتصادية التي يعلقونها على مشجب أزمات الإقليم، أم السياسية لكي يعلقوها على مشجب الإنشغال بمكافحة الإرهاب.
السبب الحقيقي بات يعرفه الجميع، وتسمعه في الشارع بصوت واضح، ابتداء من بائع البسطة في الشارع الى المحلل القابع في برج عاجي، الكل متفق على أنه سوء الإدارة، والذي ينتج الفشل في حل المشكلات جميعها: اقتصادية وسياسية واجتماعية، والجميع يدرك تماما أن القضية ليست في شخصية رئيس الوزراء ولا الفريق الوزاري، فهؤلاء تنفيذيون يطبقون التعليمات ولا يضعون السياسات.

سبب الفشل هو وضع أصحاب القرار في الأردن كل بيضاتهم في سلة الأمريكان، اعتقادا منهم أن إثبات الإخلاص في مهمة حماية الكيان اللقيط، ستحقق الإستقرار للأردن، ولأن اضطرابه سيؤثر على أمن ذلك الكيان، تحقق ذلك في جزئية بسيطة، وهي استقرار الدينار بربطه بالدولار، وهي حالة فريدة لم تقدمها أمريكا لأي بلد آخر في العالم، لكن ذلك غير كاف، وكان الدعم الآخر هو تسهيل القروض، لكنه لم يحقق المأمول اذ امتص الفساد أغلبها.

لا شك أن أصحاب القرار يدركون بأن المطلوب إبقاء الإقتصاد الأرني مرتهنا لضمان الرضوخ السياسي، فكان توهم أن رضوخه وتوقيعه اتفاق “وادي عربة” عام 94، سيرفع عنه شيئا من ذلك الضغط الذي تزايد منذ عام 88 ، لكن وبعد سنوات قليلة اكتُشِفَ أن ذلك ليس نهاية الرضوخ بل بدايته، بدليل تسارع الإنحدار باللجوء الى الخصخصة، فكان الأردن يشبه ذلك الشخص الذي يعمل لكسب قوته من سيارة أجرة اشتراها بالديْن، لم يستطع الوفاء بالأقساط، فباعها بنصف قيمتها لكي يسدد الديْن، لكنها لم تكفِ، ففاقم سوء إدارته أزمته.
ربما يفسر ذلك بشكل جلي مسألة قانون ضريبة الدخل، والذي كان ببنوده مدمرا لكل أمل بالخروج من حالة الضنك الإقتصادي التي يعيشها الأردن، لقد اعترفت الحكومة قبيل رحيلها، أنها لا تملك إلا إقراره كما وردها، فقد رفض البنك الدولي أي تعديل، لذلك ارتأى أصحاب القرار امتصاص النقمة بتحميل الوزر للحكومة، فجاءت الحكومة التالية تحت عنوان طرح قانون جديد، ولما تبين أنه لم يطرأ عليه أي تعديل جوهري، عرف الناس أن المطلوب هو ابقاءهم ينتظرون نضج الحصى، ويالتالي ستبقى أمعاؤهم خاوية، فعاد الغضب للغليان.
لذلك عاد المتباكون على الأمن والأمان الى ترديد المعزوفة ذاتها من جديد، وهي التي قوّت من عزيمة مؤسسة الفساد طيلة القرن الماضي والمتآزرة مصلحيا مع طاقم الفشل وسوء الإدارة الذين يتولون الإدارة بالوراثة والمحسوبية، وليس بالكفاءة والإقتدار، وبما أن هذا التحالف مصلحي ويمثل ضرورة مصيرية للحليفين، فقد ظل صامدا في وجه كل محاولات الإصلاح، وقد نجح لحد الآن في الإبقاء على حالة الكساح الإقتصادي، مستغلا الخوف من الفوضى المدمرة التي ستحل لو تم استهداف نظام الحكم.
الأنظمة المستبدة تمانع الإصلاح، لأنه يحد من حريتها في النهب، فتلجأ إما الى قمع المطالبين به بحجة حفظ الأمن، أو المماطلة بذريعة التدرج.
مشكلة الأردن اليوم أن الشعب أكثر وعيا من السلطة، لأنه يمثل عشب الأرض الملتصق بأديمها، فلا يمكنه الإنفصال عنها، لذلك يقلق على وطنه فيحافظ على أمنه، أما الفاسدون والمحاسيب، فالوطن بالنسبة لهم مجرد ميدان للاستثمار. وقد أثبتت تجارب التاريخ أنه عند تعارض مصلحة الطرفين، فالسلطة تنتصر لمؤسسة الفساد والمحسوبية لأنها حليفتها التاريخية، فتغريها بالتعنت والقمع…وتلك هي وصفة الخراب، والتي لم تعد تقلق الكيان اللقيط، فلديه (البديل).
لذلك فمعيار العقلانية في هذه المرحلية استجابة السلطة لمطالب الشعب بالإصلاح، فذلك السبيل الوحيد لقطع الطريق على المتربصين بالأردن، فالأوضاع الآن أوصلت الناس الى الحائط، فلم يعد من مجال لتراجعهم أكثر.