الأردن حقائق ما قبل العصا السحرية / صبحي حديدي

الأردن حقائق ما قبل العصا السحرية

صبحي حديدي

بعد تكليفه رسمياً بتشكيل الحكومة الأردنية، غرّد عمر الرزاز هكذا: «أتعهد بالحوار مع مختلف الأطراف والعمل معهم للوصول إلى نظام ضريبي عادل ينصف الجميع ويتجاوز مفهوم الجباية، لتحقيق التنمية التي تنعكس آثارها على أبناء وبنات الوطن، لتكون العلاقة بين الحكومة والمواطن أساسها عقد اجتماعي واضح المعالم مبني على الحقوق والواجبات».
الكلام جميل بالطبع، وثقيل التعهدات، ومُلزم سياسياً وأخلاقياً؛ خاصة إذْ يصدر عن هذا الرجل بالذات: القادم من بيت سياسي عريق، يمتلك رصيداً خاصاً في حياة الأردن السياسية والثقافية، يمتدّ أيضاً إلى عمق الجوار العربي المشرقي وتاريخه السياسي خلال النصف الثاني من القرن المنصرم. وخاصة، أيضاً، أنّ هذا الرصيد، فضلاً عمّا استجمعه الرزاز من سمعة شخصية خلال توليه حقيبة التربية والتعليم في حكومة هاني الملقي المستقيلة؛ هو الذي جرى توظيفه أساساً، وأوّلاً، لبلوغ هدفين عاجلين.
الأوّل هو استرضاء «هبّة رمضان» التي فجّرت أنساق احتجاج شعبي وتظاهر واعتصام فاجأت الجميع، بمن فيهم لجان التنظيم والمتابعة أنفسهم، كما للمرء أن يقدّر؛ من حيث القدرة على الحشد والانضباط والسلمية والالتزام والشعارات، وكذلك استقطاب الطبقة الوسطى والفئات الشبابية، ثمّ توظيف الضغط بصفة يومية، والحفاظ على زخمه حتى حين لاح أنّ بعض النقابات رجحت كفة المهادنة في أواخر أطوار الحراك. وأمّا الهدف الثاني فقد كان «تنفيس» الهبّة، ولكن ليس عبر أيّ مخرج آخر سوى ذاك الذي أطلق الشرارة بادئ ذي بدء؛ أي سحب مشروع قانون ضريبة الدخل المعدّل، والتعهد بمقاربة جديدة وعادلة في سياسات الحكومة الاقتصادية.
لكنّ الرزاز، أسوة برؤساء حكومات سابقين أمثال الملقي وعبد الله النسور وفايز الطراونة وعون الخصاونة، ليس حامل عصا سحرية إزاء سلسلة حقائق اقتصادية صلبة كالبازلت؛ لا مفرّ من أن تجثم بقوّة على صدر أية أجندة حكومية، ولا مهرب من مواجهة مفاعيلها وعقابيلها. في رأس تلك الحقائق أنّ الاقتصاد الأردني يعتمد كثيراً على المساعدات الخارجية، من الولايات المتحدة وبعض دول الخليج العربي أساساً، وأنّ السياسة الإقليمية والدولية تتحكم غالباً في طرائق منح تلك المساعدات أو حجبها (كما فعلت المملكة العربية السعودية مؤخراً، من قبيل الضغط على عمّان للانخراط في «صفقة القرن»، أو التنازل عن موقع الهاشميين في ملفّ مدينة القدس).
حقيقة أخرى، لعلّ الرزاز (الموظف السابق في البنك الدولي) يعرفها أفضل من أسلافه رؤساء الحكومة السابقين؛ وهي أنّ الاستدانة من صندوق النقد الدولي لا تُردّ إلا عبر فرض المزيد من الأعباء على الدخول الشعبية والمتوسطة، وعبر إلغاء الدعم عن موادّ استهلاكية أساسية مثل الخبز، أو رفع أسعار المحروقات والكهرباء، وما يقترن بهذا كله من زيادة في التضخم وهبوط في القدرة الشرائية. وليست قرارات حكومة الملقي المستقيلة، وعلى رأسها مشروع ضريبة الدخل الرجيم، وكذلك تغيير قانون الضرائب أربع مرّات خلال ثماني سنوات، سوى نتيجة مباشرة لهذه الشراكة غير المتوازنة مع المؤسسات المالية الدولية. فإذا استذكر المرء الحقيقة الثالثة، الأشدّ مضاضة، والتي تشير إلى أنّ دين الأردن يتجاوز 35 مليار دولار، وأنّ خدمة هذا الدين تستهلك مقداراً لا بأس به من الناتج القومي؛ فإنّ مهمة أية حكومة أردنية ليست البتة يسيرة، وليست الحلول المتاحة أمامها كثيرة متنوعة.
ومن الخير أنّ «هبّة رمضان» الأردنية لم تكن انتفاضة مصغرة ضدّ سياسات الإفقار المنظّم التي تعتمدها «الشقيقتان»، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فحسب؛ بل استهدفت أيضاً رموز الفساد والإثراء غير المشروع، كما فضحت دهاقنة النفاق والاستزلام والعنصرية في قلب المؤسسات السياسية والإعلامية. وعلى نحو خاصّ، كشفت الهبّة سوأة فئة «يسارية» أو «ممانعة» أو «قومية» تصفّق لمجرم حرب مثل بشار الأسد، وفي الآن ذاته تهرع إلى الدوار الرابع للهتاف باسم الإصلاح!