رباعية أردنية.. تأمّلات على قارعة الطريق.. وحديثٌ عابر في مجالس الريف
على وقع خطى احلام العابرين والصابرين ، تستلهم مجالس الريف الاردني تحديدا حكايات تستوجب التوقف عندها ، وهي اي – الحكايات- وان كانت ناقدة في مجالس مغلقة ،على غرار صالونات “النخب المغلقة” يستوجب الاصغاء اليها صحفيا وسياسيا ، ونقل المشهد كما هو دون رتوش او عمليات “ميك آب” ، أو “بوتكس” لإخفاء تجاعيد الحقيقة المرة ..تلك الحقيقة التي يتداولها الناس في مجالسهم ، ليس من باب السهر والسمر في مضافات او على “مصطباتها” الاسمنتية في ليال صيف حار فحسب ..بل هي احاديث ، تعجز “نخب” عن الغوص في تفاصيلها ..فما يقال في السر ليس كما يقال في العلن ، وذلك لاعتبارات لها صلة بهواجس “الشفافية” او نوافذ الصراحة التي غالبا ما يدفع ثمنها البعض ان هم شرعوا تلك النوافذ على مصراعيها..وهذه “رباعية” اردنية مختصرة ،تصف المشهد وتختلف عن :”إطفيء لظى القلب بشهد الرضاب…”فما يحدث في المجالس “لظى” لا يطفئه شهد الانتظار ..
(1)
قال بعد ان قارب صوته المتهدج على الانخفاض :”لا تلوموني على عصبيتي ليلة امس ، فأنا أشعر بالاختناق كلما جاء ذكر اصطلاح “تحسين المستوى المعيشي للناس ” ..ولم يكمل السبعيني الشيخ كامل حديثه ،حتى قاطعه احد الجالسين بالقول :”يا رجل حط راسك بين هالروس وقول يا قطاع الروس ” ..لم يرق الكلام للشيخ كامل وسرعان ما عاد اليه نشاط صوته الجهور ليقول في رده :”اصلا ما هلكنا بالبلد الا امثالك يا ابو سعيد ، ليردف خليك نافق وجامل، غيرك بيوكل “هبر” وانت جمل المحامل ” ..ويضيف الشيخ كامل في جلسة سمر صيفية في بلدة في الريف الأردني الشمالي : اعطيني نموذج ما يخليني اعصب ..تعليم الجامعة عندنا أغلى من جامعات بريطانية ..التمهيدي بكلف اكثر من دراسة جامعية ، صيدليات المستشفيات ما فيها غير الريفنين ودوا الضغط ..وكل يوم بغلوا الأسعار..يا جماعة اذكروا الله – يقول الشيخ – بعصبية واضحة هو الي بالدوار الرابع بعرف قريتنا ولا بدري عنا ..هنا، تدخل المضيف وقال يا شيخ كامل استهدي بالله “القادم أفضل ” مما أثارت الجملة حفيظة الشيخ كامل وراح يتمتم وهو يهم بمغادرة المجلس ..ومن جملة ما فهم من تمتمة الشيخ وهو يقول :”نفس المدرسة كأنكو قاريين عند شيخ واحد”!!
(2)
كانو اقرانه يتهموه انه “يحمل السلم بالعرض” ، غير أن الرجل الكهل ذو الصوت الجهور والبحة القوية ينفي هذه التهمة في مجلسهم أمام دكان ابو عطا القريب من مسجد القرية ..وبين اصرار اقرانه الجالسين مع على التهمة ونفييها من ابو عطا ، تأخذ المساجلة في الحديث ربع وقتهم تقريبا ..ثم تثور ثائرة ابو عطا ويروح إلى القول :”والله مانتو داريين عن الدنيا ..الناس وصلت القمر واحنا بعدنا بنحكي عن الباص السريع ، يا اخوان ما زلنا نعاني من نزف العيش ، ووجع الفقر ، وقهر الحاجة وقلة الحيلة ، وهم بعانون من ترف الحياة ، وكل هذا بتتهموني “بشيل السلم بالعرض” حاولت أحمله بالطول بس ما حدا سند طولي..ساد صمت في مجلسهم،وتمتمات قالها الجالسين ، ومن ضمن ما فهم من التمتمات قولهم :”معاه حق ابو عطا ..” ثم لاذ الجميع إلى صمت حزين وحوقلات تتسم بهدوء الصابرين.
(3)
كانت الحاجة “قطنة ابو ارجيع” ،إحدى نساء الحي في المدينة العتيقة (اربد) .. للحاجة “قطنة”/ام عمر حضورها البهي في الحي ، ولها أيضا صولات وجولات تفقدية لنساء الحي ،اما ان يحتسن قهوة الصبح ،أو شاي المساء معا..كان حي الرشيد وسط المدينة القديمة ،أكثر من حي ،فهو العنوان الابرز في تاريخ المدينة لدرجة ان الحقد الصهيوني استهدفه حصريا في عدوانه الغاشم سنة1967..فما ان بحتمعن في جلسة عصف ذهني يتخللها السياسة ،والاقتصاد، والاجتماع،وأسرار البيوت ..و”نمينة” محببة لا تؤذي..كل ذلك يتم في جلسة واحدة ، مما شكلن نسوة الحي القديم:”قطنة ابو ارجيع ، وفزة الشرع والدتي ، ونورة الدلاقمة ، وحياة العقلة ، والحجة العلاوية ،وأم قاسم ابو دولة ، وتنظم اليهن لاحقا الحاجة “أم اصطيف”..ومما يدور من احاديث كان وقتها بعكس وعي المدينة العتيقة ، ونقاء سريرتها ، وصلابة موقغها حيال القضايا المتعلقة بالوطن والأمة ..أذكر انهن اتشحن بالسواد حين مات الرئيس جمال عبدالناصر ، ورفعت الرايات السوداء على اسطح بيوت المدينة ، وتركن مؤشر المذياع لأسبوع كامل للشيخ عبدالباسط عبد الصمد ..،وفي سياق الحديث عن المدينة، كن الأكثر صدقا ، والأكثر بهاء ..كن يشكلن مجلس استشاري بحرفية عالية ، وصدقية كبيرة ..راهنا ، يبحث الأبناء عن الصفات العشرة التي فقدتها المدينة العتيقة ، بحكم تغول الشيد والقرميد ..ووجبات “الديلفري” التي أكلت يابس البلاد واخضرها.!
(4)
شيء عن الفلاحين..،يحكى ان سهل حوران كان يصدر القمح الى “روما” ..ولعل السهل إياه الذي غنى له المطرب السوري فهد بلان ، هو ذات السهل لكن القمح والفرح افترقا ، لأسباب تبدو مفهومة سياسيا ..، وبصرف النظر عن الاسباب التي ادت إلى اقتلاع القمح والفرح من أرض حوران، وهي للتوضيح للقاريء العربي الشقيق “أرض تمتد من شمال شرق الاردن إلى حدود دمشق الجنوبية ، كان الفلاحين يزرعونها بالقمح يكفي لدول بلاد الشام ، وما تبقى يصدر إلى روما ، هذا قبل 100سنة ..،وقتها كان الفلاح العربي بشكل عام يتبختر “مرفوع القامة والهامة” قبل أن يتحول القمح الى سلعة سياسية ..راهنا ، نتبختر بالسيارة على ضفاف سهل حوران ،نرى “حوران” ولا نرى القمح ..يدهشنا مشهد الشيد والقرميد ، فنبكي على اطلال الفرح المصادر لقمح كان هنا ذات يوم ، وسنابل (في كل سنبله 100حبة) ..،يدهشنا المشهد ويدخلنا في متاهة السؤال:”ما الذي جرى يا حوران؟!”