كنانة نيوز –
الدكتور إبراهيم علي الطيار يكتب
صور الحب والعشق والإنتماء في شعر فاضل الزعبي
شهد المجتمع الأردني والمحيط مع بداية ومنتصف هذا القرن تغيرات مختلفة ومتعددة بدأت من تقسيم الاستعمار لتركة الخلافة الإسلامية العثمانية ثم اغتصاب فلسطين ونشر الفوضى والتفرقة في هذه المنطقة التي كانت وادعة وآمنة، يرسم أبناؤها مستقبلهم بحبات عرقهم المتساقطة فوق ثرى هذه الأرض المعطاء التي تعيشون عليها فتنبت حباتها سنابل قمح ذهبية يصنعون منها غذائهم ويبنون منها أجسامهم وبيوتهم، هذه الأرض التي ارتسمت تضاريسها على ملامح الفلاح الأردني الحوراني قسوةً وحباً رأفة وصبراً، فعبَّرَ عن كل ما يدور بخاطره بالغناء والفرح والأهازيج، فكان قلبه يهتز عندما يسقط المطر كما تهتز هذه الأرض فينبت الحب والعطاء، يسجل بكلماته التي تخرج من صميم قلبه دون أي تصنع أو مجاملة مشاعره تجاه الأهل والجيران والصحبة وتجاه الزوجة والأم والأخت والإبنة وتجاه كل قضايا الأمة التي عاشها بعزة المنتصر وألم المنهزم الذي لم يفقد الأمل أبداً، كيف لا وهو الذي يعيش على أرض باركها الله.
هو ذلك الفلاح ابن القرية الحوارني الممشوق صاحب المبادئ والطموح الذي رسم بكلماته تفاصيل حياته فغنى في عرسه مترنماً بكلمات نطقها لسانه بعدما خرجت من دواخله كشلال ماء عذب، معبرةً عن الحب والرقة والرجولة والصمود والعنفوان، طرَّز بكلماته تاريخاً جميلاً لمجتمع تحول من مجتمع القرية البعيدة عن المدينة إلى مجتمع القرية المفتوح على كل جديد، مثلما طرزت الأم الحورانية ثوب زفاف ابنتها بخيوط من قلبها رسمت بها أزهاراً وألواناً تحاكي الطبيعة التي تعيش فيها معبرة بذلك عن سعادتها وفرحها وحزنها في آن واحد لفراق قطعة من قلبها، تلك الأم التي خالطت القسوة رقتها وحنانها وخالطت ذرات تراب هذه الأرض مسامات جلدها، أما خشونة يديها ورائحة دُخان فرنها فقد خالطت عطفها وحرصها على أبنائها لتصنع منهم رجالاً يخافون على بلادهم ويدفعون عنها ويبنونها بكل إخلاص.
كل هذه الظروف التي رافقت مرحلة التحول الأخيرة في مجتمعاتنا والتي كانت متصلة ومكملة لبعضها البعض، صنعت خصوصية لكل مجتمع منها في اللغة والعادات والسلوكيات، فكان الشعر الشعبي أحد هذه الخصوصيات التي تميز بها كل مجتمع عن الآخر، فهو نمط من الشعر القريب من القلب ولون من ألوان الأدب الشعبي الذي يوثق لمرحلة محددة بكل تفاصيلها المادية والمعنوية متميزاً بإسلوبه المغنَّى والموزون والمقفَّى، والذي يعبر عن كل لواعج نفس هذا الإنسان بلهجته المحكية والمتداولة أثناء تلك المرحلة الزمنية، ويسجل هذا اللون الأدبي الأحداث التاريخية المختلفة وردود الفعل والمشاعر والأدوات وسُبلَ العيش المختلفة بلهجة صاحب هذا اللون الأدبي.
ولا شك أن شاعرنا المرحوم فاضل الزعبي ابن حريما الحوراني الأصيل الذي تنفس هواء هذه الأرض الممزوج بنسمات الجولان وجبل الشيخ وتلال فلسطين الحبيبة، ورائحة تراب هذه السهول المجبول بدماء الشهداء وحبات عرق المُزارع العاشق لأرضه، عَرَفَ معاني الحب والعشق والإنتماء المختلفة ووثقها في شعره، فوصف طيبة الفلاح الأردني الحوراني المرتبط بأرضه والمعتز بنسبه وقيمه وعاداته، بقوله
أرض مزروعة حب وخير
ونقطة مية تروينا
إذا إفرحنا ….
بنطيش بشبر ميه …
وبس نزعل بتصير الدنيا فورة دم …
وأضيق من خرم الإبره
نجوع ونقسم اللقمة ع ضيم وجوع نقسمها …
ولا مرة مضافاتنا استحت فينا
بطيبة قلب نروح ونيجي بالدنيا …
بگلمة حب تبيع وتشتري بينا
تحير بينا، وماتعرف فرحنا من تعازينا …
وما تدري نلاقي الموت وإلا الموت يلاقينا
يدفينا الستر والطيب حادينا …
والعز يتعلم معاني من معانينا
وأحب شاعرنا المرحوم فاضل الزعبي قريته حريما، وتمنى أن يكون فيها كزيتونة راسخة الجذور أو كنغمات ناي لراعٍ يجلس على سفح تلة مطلة على سهول حوران ترسم معالم الدبكة والجوفية، وتثير زغاريت فرح الصبايا والأمهات، وتمنَّى المرحوم فاضل الزعبي بأن يكون فيها بئر ماء محفورٌ في تربتها يَسقى العطشى ويروي الطامحين لذلك، بل تمنَّى أن يكون دحنونةً تُزينُ سهولَ حريما وظفائر صباياها:
ياريتني زيتونة بكرومگ حريما …
وإلا بير يعلم الحلوات نشل المي
وإلا دحنونة ع تلة دارنا …
تقطعني حلوة من بَناتِك
تمسحني فوق خدودها وتشبكني مع شعراتها …
وأذبل وأموت …
وتَغنَّى كذلك بالفلاح وبمواسمها هذه الأرض الجميلة العالقة في ذاكرته، فشبه القمح بالذهب، وذكر موسم الحصاد والصاع والمنجل وغيرها، وبيَّن قيمة العمل وطيبة النفس والإيمان لدى فلاحنا الأردني، حين قال
فلاحنا يحصد ذهب …
يرجد ذهب …
يذَري ذهب …
ويگيل ويصّبر ذهب
يگيل صاعه بذكر الله والنبي
يامكرمه… الذهب غالي وزنه بالقيراط ..
وفلاحنا بالصاع يگيله
وقد افتخر شاعرنا كذلك بالأرض والإنسان مباهياً كل الدنيا بكرامتنا وعروبتنا التي نعتز بها وأصلنا الذي هو مصدر فخر لنا، بقوله في قصيدة “هضول إحنا”
عرب ما نستحي بيها …
ونصبنا للمجد راية…
لقينا المجد يتَّبَع سواقينا
إذا بإنساب .. دور ع الأصل فينا
وإذا بإمجاد .. تتباهي العَرَب لو مر طارينا
وخيولنا ع الريح تمشي …
لو عَ شُفَّلنا داست أعادينا
هضول إحنا … وعليكوا انتوا تسمونا بأسامينا
وقد انتصر شاعرنا المرحوم لقضايا الأمة المختلفة وخاصة قضية فلسطين الحبيبة وقال في ثورة الحجارة وفي أبطالها وشهدائها:
غنت حجار بيد حلوة عتابه …
وغنت ميجانا وجرت ربابه
آآضت حجر يقدح شرر …
ولع بيدين صغار نار …
وقامت قيامة بشر
روَّدوله بيوم عرسه…
شالته كفوف النشاما…
وهللوا الله واكبر
وزغرتن كل الحراير …
بالشوارع بالجوامع بالبيوت
وعَمَت الفرحة بشاير
استمد شاعرنا كلمات شعره المحكي من ذلك، ومزجه بذاته العاشقة التي تغربت بعيداً عن أرضه التي يُحب، فبقي مرتبطاً هنا بهذه السهول وبكل المعاني السامية التي حفظها واعتقد بها فهو يُشَبِهُ الوطن بالإنسان في قصيدته “شوق” ويقول
منهوه قال …
إن الوطن بنيان …
يعَّلي ويعَمّر ذكرنا …
وحجار تكبر قلبها صوان …
منوه قال..
الوطن …
الوطن دم ولحم …
يتنفس برو ح المحبه …
ويعلى بهامات الزلم … عز وكرامه …
وقلب دافي … يضمنا بحب وحنان …
الوطن … الوطن ياللي تغني عالوطن …
الوطن إنسان … الوطن إنسان.
وفي نفس القصيدة يشكو الغربة ويرسم معالم شوقه فيها، فيقول
يا شوق …
هدني التعب … وتناثرت روحي …
على فراقك حلم عشاق
احاگي طيفك … و قلبي يعاتب قلبي ويلومه …
واني مشتاق
وعمري…وعمري ظااع…
بعزقته على الغربه دمع وافراق…
فهو الذي شده الشوق إلى ذكرياته ومرابع طفولته في سهول حوران والتي لم تغادر ذاكرته أبداً، فتذكر تعاليل المضافات والقهوة -رمز الكرم- ووجوه الرجال التي شوحتها شمس الحقول، اولائك الرجال الذين يخجلون من الخطأ، أقوياء، زنودهم تدافع وتبني وتبث حضارة ونور، فهو يقول
عاااشق أني…
عاشق أني وإحتار بيَّا العشق ليل ونهار…
تِذَوبني سوالف ليل بالقمره …
واشم بحظن محبوبي أرض خضره …
ومظافات وتعاليل … وحگي سهره …
ودلال مصهَيه ع النار … ووجوه ملوحه سَمرَه …
وزلم مجبوله بترابك … زلم تخجل من الزله …
غسل بيها التعب الاوجاع … زلم ما تنشرا وتنباع
وزنود كتبت على حدود السيف تاريخ
… شعلة حضاره ونور…
ناره ما انطفت طول العمر..
وأني وانته انخلقنا بيوم …
عشنا الحلوه والمره …
ورسمت الشوق لعيونك حلم بكره…
ويصف شاعرنا المرحوم حبه للوطن والذي يطلق عليه بيت العرب في أحد قصائده، بأنه اقترانٌ وثنائيةٌ من الصعب الفصل بين مكوناتها مثل اقتران الشمس والقمر واقتران السناسل والحواكير، وهذا ما يوثق شكل الحواكير التي كانت تحاط بسناسل حجرية يرتبها الفلاح حول حاكورته لحمايتها وتنظيمها بعد أن يلتقطها حجراً حجراً من تربة تلك الحاكورة، دليلٌ على فهم الفلاح الراسخ بأن مكونات الأرض التي يرعاها تتكامل فيما بينها فيدعم كل منها الآخر، حين يقول
واني وانت قرن … ما نحمل الفرقة…
مثل الشمس والقمر … مثل الخوابي والبيار …
مثل السناسل الحواكير… ولعب الصغار…
وفرحة عصافير الصبح بنهار …
مثلي اني والليل …
ما نحمل الفرقة
وقد كتب شاعرنا في الغزل بلهجة الفلاح الحوراني الحر وتغزل بحبيب الروح ووصفه بالغزال الصغير “المعَنَق والمَزيون” الذي يَسرق لُب محبيه، حين قال
دخلگ تراني بالصبر داويت حالي …
مل الصبر مني وأني مليت
شايل ع عمري عمر ثاني …
وقلب طَيَّر مواسم فرح واتسكر بإيديگ
وقد صوَّرَ عشقه وحبه للجمال بصفات مختلفة ومستمدة من واقعه وتراثه، ومجبولة بالمشاعر وجماليات البيوت القديمة المبنية من الحجر والطين، ومن العلاقات التي كانت تسود مجتمعاتنا في ذلك الوقت، فهو يقول
يا ضُمت شومر وريحان …
ويا أرض معفرة بالطيب ومكسية بزهر نيسان
ياشوق النبع من يقبل عليه عطشان …
ياحضن أمي وأني خايف
يا فرحة جدتي وجدي على ملقاي …
ياديرة خير مجبولة بسوالفنا
يا عشرتنا … يا عيد ترفرف إعلامه ع حارتنا
ويقول في قصيدة أخرى له عن لحن ياظريف الطول:
معَنَق ومزيون مرق ما رجع …
قلبي مِن شافه لصديري رجع
عقلي مني شت صرت أمشي واقع …
قالوا مجنون الهوى، ما أخذ دوى
وقد وصف شاعرنا حال العاشق المُحب، وما يَصنَعُ الحُب بالمعنَّى فيحيله إلى مريض من غير مرض عضوي، فيحتار به الأطباء ولا يدرون ما به من وجع، حين يقول
أنادي والدمع يفضح دليلي …
ياللي مفارق، عليك الله لاتجفى
عليل بحبك وحالي دليلي …
ترى الدكتور قلي صعب تشفى
مريض الحب عجَّز كل عالم …
بعد ما كتَّبه مليون وصفه
يدور ع المرض ومايدري عنه …
غفى بقلبي ولبس طاقية الخفَى
وقد وَصَفَ أيضاً حالة العشق لديه بأنها حالة حُسن نية لفلاح حوراني لايملك سوى مشاعره العفوية التي تَرسِمُ صورة من يحب في كل ما حوله، فينكشف ذلك الحُب على ملامحه وكأني به يردد قول الشاعر ويقول لنفسه
لاتُخفي ما صنعت بك الأشواق …
واشرح هواك فكلنا عشاق
نعم فهو يرسم صورة من يحب في كل مكان، ويراها مثل عماد البيت للروح، ويقول
بَشوفگ صورة بكتابي …
واشوفگ ضِحكة إحبابي
واشوفگ موسم وزفة على بابي …
واقول ياريت … ياريتگ… ألف ياريت
لونگ ما رسمتي الشوق بعيوني قناطر بيت …
ولا عَمَّرت عُليَّه
ولا هديتي بفراقگ …
عَمارة بعمري مبنية …
ويلوموني ع حالي ومش بأيديه…
تراني فلاح وحبيت بحس نيه
ومع ذلك فقد كان شاعرنا فاضل الزعبي رحمه الله صاحب كلمة حق يقولها بكل جرأة، فهو الذي خاطب نفسه بقوله
ساكت وحق الزلم تحگي إذا شافت …
وتصرخ بوجه الظلم وترفع بيارق دم
وانت اللي يوم العلم ما همتك دنيا …
تشرب بكاس الكرامة ولو شرابك سم
ويستطرد قائلاً:
يوم الحگي ليه ثمن والكلمة وزن الدم …
وزنت دمي وقلت .. وغيري سكت ما أهتم
فقد كان في حالته هذه ساخطاً جداً على الساكتين عن الحق، والساعين للمناصب على حساب مبادئهم وأصالتهم وقيمهم، لينقلب حالهم وسلوكهم بعد حصولهم على المنصب فيصبحوا ضد أهلهم وفوق وجعهم الذي يعرفونه، فيقول
يبگي علينا الصبح ويذبحنا ظهرية …
ويصيح وين العدل ويذوب حنيه
يوم الثمن يقضبه والمنصب تسمى …
لايقول حتى الآخ لو قرصته حيه
وقد كان سياسياً أيضاً في شعره عَبَّر عن وجع الأمة وعن خوفه من المستقبل وعن ما قد تؤل إليه حال الأمة وحال فلسطين وحال الثوار فيها، عندما قال
خايف عليكوا من الغدر ياصغار …
خايف عليكوا من اللي باعوكوا قبل الثمر نوار
وخايف عليكوا من اللي باع الأرض برا، واشتغل سمسار
ليبيع فيكوا ويشتري …
عُقب التعب ترموا حَجركوا وتقعدوا وتصيروا للتجار
نعم فهو شاعر الدحنون والسنابل والقيم والجمال والعشق والإنتماء، تنوعت أغراضه الشعرية، فرسم بكلماته قصة جيل، ثارَ وأحبَ، غضبَ وعشقَ، بنى وانتمى، عاش كل المتناقضات، استنشق العزة مع هواء هذه الأرض ومع نسمات الفجر المبللة بحبات الندى، فكان كريماً معطاءً عزيز النفس خصب الصفات مثل هذا الثرى، فهو نحن وهو أنتم
وهضول إحنا … الفخر يمشي بنواصينا
هضول إحنا .. وما ندري نلاقي الموت وإلا الموت يلاقينا
هضول إحنا … وعليكوا انتوا تسمونا باسامينا ..