التصوير الجِصي الفريسكو وعلاقته بمتحف دار السرايا / الباحثة فريال بني عيسى

كنانه نيوز –

التصوير الجِصي الفريسكو وعلاقته بمتحف دار السرايا

الباحثة فريال محمد بني عيسى

رصدت المخلفات الأثرية للحضارات القديمة العلاقة التي نشأت بين الإنسان والبيئة, ممثلة بالرسوم التي أنشئها على جدران محال إقامته, جاعلا من الكهوف والمعابد والمدافن مسرحا لإبداعاته وابتكاراته من جهة, ومحولا الحائط لموسوعة علمية وفنية وظفت لخدمة الطقوس والمشاعر العقائدية من جهة أخرى,لتعكس لنا نشأة واحد من أهم فنون تجميل البيئة الداخلية ألا وهو فن الفريسكو, الذي سنتعرض له هنا من خلال مدافن قويلبة الأثرية.

قويلبة

قويلبة المتربعة على تلتين أثريتين آبل جنوبا وأم العمد شمالا تعتبر واحدة من أهم المواقع الأثرية التي حظيت بها منطقة الشمال,والتي حاكت بمكنوناتها التاريخ القديم منذ العصور البرونزية الأولى مرورا بالفترات الكلاسيكية خاصة الفترة الهلنستية والرومانية والتي شهدت ازدهارا توج بانضمامها إلى حلف المدن العشر(الديكابولس) وانتهاءا بالفترات الإسلامية, وقويلبة الواقعة إلى الشمال من مدينة اربد بحوالي (12كم), إنما جاءت استمرارية الحياة فيها على مر العصور كرد فعل طبيعي لقربها من مصادر المياه, فهي تقع على الطرف الغربي لوادي قويلبة الغني بمياهه الجارية ومزروعاته دائمة الخضرة[1],بالإضافة إلى قربها من نهر اليرموك الذي يبعد عنها حوالي (5كم),[2].

ومن أبرز معالمها الأثرية التي لازالت ماثلة للعيان إلى يومنا هذا بقايا كنائس تؤرخ للعهد البيزنطي وسور المدينة القديم وبقايا جسر حجري يربط الجانب الغربي بالشرقي, أما المدافن المحفورة بالصخر فقد انتشرت بكثرة على الجانب الشرقي للمدينة, وقد ظهرت وبداخلها رسومات جداريه نفذت بطريقة الفريسكو,[3] وهو ما سنتعرض له في سياق بحثنا هذا لاحقاً.

وكان الرحالة بيركهارت قد زارها واخبر عنها :-(وعلى بعد ساعة ونصف من شمال شرق حبراص  توجد خرائب آبل , أو (ابيلا) القديمة إحدى المدن العشر(الديكابولس) ولم تبق في هذه البلدة أية أبنية أو أعمدة قائمة إلا أنني أخبرت أن هناك حطام أعمدة حجمها كبير).[4]

وعلى مدى تاريخها الطويل فقد وردت هذه المدينة بأكثر من اسم أذكر منها:- أبيلا – Abila , رافانا – Raphana , تل آبيل – Tel Abil ,[5] كما وردت أيضا باسم آبل الزيت وآبلٌ (بفتح الهمزة وبعد الألف باء مكسورة ولام : أربعة مواضع, وفي الحديث أن رسول الله, صلى الله عليه وسلم, جهز جيشا بعد حجة الوداع وقبل وفاته, وأمرَ عليهم أسامة بن زيد, وأمره أن يوطئ خيله آبل الزيت, بلفظ الزيت من الأدهان, بالأردن من مشارف الشام,

قال النجاشي:

وصدَت بنو ود صدودا عن القنا       إلى آبل في ذلة وهوان [6].
مدافن قويلبة والرسومات الجصية (الفريسكو)

كانت خمسينيات القرن الماضي هي البدايات الأولى للكشف عن بعض المدافن الأثرية التي احتوت رسومات جدارية في مدينة قويلبة,[7] ولكن حجم الاكتشافات في هذه الفترة كان بسيطا إذا ما قورن بتلك التي نفذت في مطلع الثمانينات والتي أظهرت ما يزيد عن العشرين قبرا ضمت رسومات وزخارف فنية نفذت بطريقة الفريسكو[8], إلا أن وجود هذه المدافن منحوتة ضمن صخور لينة هشة  من النوع الكلسي والطباشيري قد أعاق عمليات التنقيب وبالتالي عمليات الصيانة والترميم فيما بعد لهذه الرسومات وذلك بسبب الخشية من حدوث الانهيارات.

وقد ظهرت هذه المدافن بتصاميم اتفقت على أنها اتخذت شكل المستطيل وتدرجت من المستطيل العادي إلى ذو القبة أو القبتين وانتهت بالمدافن ذات الحنايا المستطيلة وذلك لغاية وضع الجثث, إذ بينت عمليات التنقيب لبعض هذه المدافن عن احتوائها على ما يزيد عن الأربعين جثة في القبر الواحد, حيث كان يتم وضع الجثث ضمن توابيت حجرية ثم توضع هذه التوابيت داخل تجويفات محفورة في الجدار أو داخل حفر, وقد لوحظ تعرض هذه المدافن للسطو وذلك بسبب ندرة الموجودات الأثرية فيها خاصة العملات, والتي اقتصرت على وجود التوابيت وأغطيتها إلى جانب بعض التماثيل الحجرية النصفية والتي استخدمت كشواهد لهذه القبور[9].

والى جانب أهمية هذه المدافن أثريا فقد برزت وبوضوح قيمتها الفنية العالية, التي استطاعت إن تعكس بدورها مجموعة من الظواهر الثقافية والاجتماعية والدينية وغيرها وذلك من خلال الرسومات والزخارف التي نفذت على أسطح الجدران والأسقف, والتي حملت أشكالا مختلفة بعضها آدمي كامل أو نصفي أو رؤوس بشرية مذكرة ومؤنثة إلى جانب الرسومات التي حاكت عالم الحيوان والنبات السائد آنذاك كالخيول والأسود والطيور والأسماك مع أغصان النبات والورود والعنب وسنابل القمح غير متجاهلين لاستخداماتهم الوحدات الهندسية مثل الدوائر والأقواس والأشكال ذات الأضلاع غير المتساوية[10], والتي رمزت في غالبيتها إلى طقوسا جنائزية وعقائدية دينية سادت في تلك الحقبة.[11]

وسنتعرض لجزئية من هذه الرسومات من خلال لوحة فنية تعرض الآن في متحف دار السرايا تم جلبها من إحدى هذه المدافن.

ولكن قبل الحديث عن هذه اللوحة كان لابد لنا من التعريف بمفهوم الفريسكو والتقنية التي يستند عليها.
الفرسكو أو الأفرسكو Affresco, fresco         تعبير أخذ عن الايطالية ويعني طازج – Fresh [12], وقد ورد ذكره في أكثر من تعريف أذكر منها رسمٌ جداري[13], تصوير جصي, زخارف جدران[14], جص ملون[15], تصوير جداري[16], غض أو طري[17], لنخلص إلى أن الفريسكو هو فن الرسم على الجدران أو الأسقف المجصصة قبل جفافها وذلك باستخدام الألوان المذابة في الماء.

والفريسكو الرطب هذا هو أكثر جودة وجمالية وأطول عمراً من الفريسكو الزائف أو الجاف والذي تتم فيه عملية الرسم على الجدران وهي جافة نسبيا[18], بإضافة مادة رابطة إلى الألوان تعرف بالغراء أو زلال البيض[19], وقد وجد هذا النوع من الفريسكو على جدران وأسقف المعابد والمقابر في مصر في الألف الثالث قبل الميلاد, في حين نشأ الفريسكو الرطب أو الحقيقي في جزيرة كريت في بداية الحضارة المينوية Early Minoan  في الألف الثالث قبل الميلاد كتلك التي وجدت في قصر كنوسوس Knssos   وتايرنز Tiryns باليونان وكذلك مدينتي هركيولانيم Herculaneum   وبومبي Pompii   بإيطاليا[20].التقنية التي يستند عليها فن الفريسكو

ليس من المستغرب أن يمتد هذا النوع من الفنون لمئات بل الآلاف السنين, فالمنطق يقول أن ما بُني على أساس علمي ليس من السهولة تبديده, وأبجديات هذا النوع من الفنون اقتضت تحقيق المعادلة الكيمائية الناتجة من اتحاد ثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو مع هيدروكسيد الكالسيوم الموجود في الجير المشكَل للأرضية مع وجود الرطوبة الجوية لتكوين كربونات الكالسيوم الغير قابل للذوبان في الماء.CaCo3=Ca(OH)2+Co2+H2o   [21].

وهذا يعني أن عمليات إعداد أي رسم جداري مهما صغر حجمه أو كبر يتطلب مجموعة من الإجراءات لضمان سلامة العمل, تبدأ بإبعاد الجدار الحامل للرسم عن مصادر الرطوبة والأملاح مرورا بتجهيز مونة السطح والمكونة من الرمل الخالي من الأتربة والأملاح والجير(هيدروكسيد الكالسيوم) المادة الأساس في تحضير السطح والناتج من حرق مادة الحجر الجيري تحت درجة حرارة تترواح بين (800مْ – 1000مْ )[22], وبعد أن يتشكل الملاط تبدأ عمليات تبيض الطبقة ما قبل السطحية(الداخلية), وعليها يضع الفنان تصميمه ويقوم بتحديد الخطوط الخارجية لمختلف الأشكال بالألوان المائية[23], لتبدأ بعدها عملية إعداد الطبقة السطحية (الخارجية) ويشترط فيها أن تكون قليلة السماكة حتى لاتكون سبباً في إحداث التصدعات وبالتالي ضياع الرسوم, وهنا يبدأ الفنان بإضافة طبقات الجبس بمساحات صغيرة ويقوم بتلوينها قبل أن تجف على أن يراعي أن تتم عملية الرسم بسرعة وخفة مع التركيز على الأساسيات, يرافقها تحديد كمية الألوان التي يستطيع الجبس امتصاصها خوفا من فقدان بريق العمل, وهو بذلك يسمح لثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء أن يتخلل أجزاء المونة الداخلية فيتفاعل مع الجير مكونا كربونات الكالسيوم التي تربط حبيبات الرمل بعضها مع بعض أولاً ومع السطح الحامل للرسم ثانياً[24], على أن يسبق كل ذلك طحن المواد الملونة وسحقها جيداً للحصول على حبيبات بالغة الدقة لضمان تداخلها في أرضية التصوير الطازجة.[25]

متحف دار السرايا والتصوير الجصي

لمنظور الفن وقيمته, وإبداعات الجمال وسموه نصيباً بمعروضات متحف دار السرايا, والتي ظهرت وقد غذت الحس الفني إلى جانب القيمة التاريخية والأثرية والتراثية, والتي تجلت بوضوح في نخبة من هذه المعروضات, كان على رأسها تفرده بعرض رسماً جداريا نفذ بطريقة الفريسكو والمؤرخ للقرن الثاني الميلادي تحديداً[26], انظر الشكل رقم (2،1)

شكل رقم (2)[27]

لوحة الفريسكو المعروضة في متحف دار السرايا                 منظر للصورة وهي على جدار المدفن رقم(13)

والذي أحضر من احد مدافن قويلبة في تشرين أول من عام 1982, وتحديداً من المدفن رقم (13), وذلك بهدف الحفاظ على ما تبقى منه بعد أن تعرض للتلف والخراب بسبب عوامل طبيعية وأخرى بشرية عبثية طالت المدفن بأكمله, فأضحى آيلاً للسقوط , لذلك ومن باب الإجراءات الاحترازية فقد أغلق المدفن بالحجارة والاسمنت بعد أن خضع لعمليات المعالجة ومن ثم التسجيل والتوثيق[28].

والمدفن هذا عبارة عن مقبرة مقطوعة بالصخر مساحتها (7,70 في 5,80م) يتخلله أربعة وثلاثون تجويفاً, إضافة إلى ثمانية توابيت حجرية استخدمت جميعها لغايات وضع أجساد المتوفين [29], علما بأن عملية الدخول لهذا المكان كانت تتم عبر باب مقوس بارتفاع مترين وعرض متر ونصف, وكغيره من المدافن فقد غطت مساحات واسعة من جدرانه رسومات جصية تضمنت أشكالا آدمية وأخرى حيوانية ونباتية وجدت في كثير من الحالات ضمن أطر هندسية مستطيلة أو دائرية نفذت جميعها وفق الأسس والقواعد الفنية المتبعة[30].

أما لوحة الفريسكو التي يحتضنها المتحف فقد أخذت من الجدار الخارجي الغربي للمدفن والتي تعلو المدخل المقوس,انظر الشكل رقم (4،3)

لوحة الفريسكو مرسومة فوق مدخل المدفن وتمثل بقايا رسومات لدائرتين كل واحد منهما تمثل إطار عريض وبداخله ما يشبه الأقواس الصغيرة المتقابلة وكأنها أشكال بيضوية, وكلا الدائرتين تضمنت صوره نصفية لامرأة بوضعية المواجهة وقد ظهر شعرها منسدل على كتفها ضمن خلفية لونت باللون الأزرق في حين  ظهر جزء يسير من الدائرة الأخرى ويبدو فيه رأس المرأة بوضعية جانبية,هذا وقد شغلت المساحة الفاصلة بين الدائرتين برسم خطوط مسننه شبه دائرية تعلو عصا طويلة لونت باللون الأحمر أيضاً.[33]

وللمرأة في العهود القديمة دلالات قوية تؤكد أهميتها, فقد بلغت حدَها الأعلى عندما جعلوا منها آلهة لدى البعض من جهة في حين حافظت على بقائها رمزا لاستمرارية الحياة وتجددها من جهة أخرى, وبما أن الصورة هنا اكتسبت قوة ونفوذ لم يصله الكلام, وأخذت مكان الصدارة, فلابد من الإشارة إلى أن هذه المرأة قد استمدت قوة إلهية من شعرها الذي تدلى على كتفيها وظهر ملون بالأحمر رمز العشق الإلهي والحب البشري المعد ليهب دمه وحياته من اجل من يحب, ومحاكيا الصفاء والنور من خلال زرقة السماء التي لونت بها خلفية اللوحة, كل هذا ضمن قالب اتخذ شكل الدائرة ربما ليشير إلى اللانهاية وفكرة الأبدية التي كانت سائدة لدى بعض الشعوب.[34]