كنانه نيوز –
زار فريق «مسارات» مؤخرا منطقة وادي الريان المعروف أيضا باسم « وادي اليابس» في شمال المملكة.
وكتب قائد الفريق الفنان الفوتوغرافي والباحث عبد الرحيم العرجان عن الرحلة التي جاءت بعد مماثلة لها ولكن الى وادي عرجان الأسبوع الفائت:
” لم يثننا انتهاء وادي عرجان عن استكمال امتداده بشقيقه الجغرافي وجريانه المائي بالوادي الذي اقترن اسمه بالديوان الوحيد لشاعر الأردن الحر «عرار» وقصصه الجميلة وخلوة القساوسة والزيتون القديم.
من طاحونة عودة بوادي عرجان، بدأ مسارنا مع الصباح الباكر متشوقين لبابيش، الوادي الذي حمل اسم ديوان مصطفى وهبي التل/ عرار «عاشيات وادي اليابس» واليابس الاسم الذي حدثه جلالة الملك عبد الله الأول المؤسس، بعد زيارته عام 1930؛ ليصبح الريان المعروف بجماله الربيعي وجريان مائه المستمر، حيث يعد من أكبر روافد نهر الأردن المقدّس كما وصفه الجنرال وليام لنش في كتابه «بعثة مشاة البحرية الامريكية لاستكشاف نهر الأردن والبحر الميت» عام 1848.
وقد أقام وغيره من المستشرقين بنواحي مصبه، بضيافة أمراء الغزو ووثقه أدق توثيق لغاية شلالة الرشراش، أعلى المساقط المائية في شمال المملكة للغرب من كفر أبيل وجديته وحلاوته، مروراً بين مقاميّ شرحبيل بن حسنة وأبو عبيدة عامر بن الجراح، شهداء قادة الفتوحات الإسلامية ونشر الدعوة في بلاد الشام من صحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وحي فني
وتابع العرجان:” انتهى طريق شبه معبد وليس بالطويل عند بيتٍ عتيق وحضيرة شتوية لراعي ماعز، حيث أخذنا منه حصتنا من الحليب لغليه مع الزعتر البريّ فهذه الوصفة قد اعتدنا عليها، ليبدأ بعدها مسارنا الفعلي بين زيتون معمر، ولابد إنك إن أمعنت النظر فيه، ستقرأ تاريخا وترى وجوها كسجل لمن كان هنا بعمر تجاوز الألف حتى ألفي عام ، ومنه استوحى فنانون أفكارا لأعمال إبداعية كمجموعة الفنانة رانيا عقل الفوتوغرافية كل حسب موطنه وارضه، وعرار والد الشهيد وصفي التل والحاكم الإداري للسلط والزرقاء والشوبك، تعلق فيه وبمن فيه من بني مرة وجميلة جميلاتهم ليقرن حسنها بجمال الريان بصوره الشعرية، ولم ينظم بوادي آخر سوى الشتاء قرب عمان.
كانت وخزات القريص مداعبة لمسيرنا على الممرات والطرق الترابية الذي نمى وارتفع حولها بعد خير الشتاء، والكثير من ازهار وحشائش الأرض وامتداد الأقحوان والصفير والترمس البري الأزرق، لوحات تظهر وتشّمها بمواعيد وفصول حسب تقاويم الزراعة العربية فنحن بفترة ما يسمى «سعد السعود» موعد تفّتِحها وتقنيب الأشجار ويقول المثل «بسعد السعود تدور المية بالعود» أي يعود يزهر ويورق، ومع الكم الهائل من جمال الخالق إلا أننا كنا نبحث عن ضالتنا السوسنة الرمز الوطني للنمو والتجدد، ومن هذا السحر الفطري استمدت جداتنا رسومات تطريز أثوابهن ونقوش وزخارف فنون العمارة وأصباغ البسط والفجوج الصوفية.
دروب زلقة كانت تحملنا بقلب وكتفي الوادي المليئ بالكهوف والمغاور العالية، قاطعين مجراه البارد مرات ومرات، ولذا يستلزم ارتداء بنطال المسير المصنوع من ألياف البوليستر السريع الجفاف وحذاء يسمح بدخول الماء وخروجه حتى لا يسبب تقرحات بالقدم نتيجة الاحتكاك المستمر، ذا نعل عريض خشن مانع للانزلاق في الماء أو الدروب الرطبة مع عصي الارتكاز ذات الرأس المدبب، وللكشاف الذي يستبق قائد المجموعة دور كبير بتمرير المعلومة واتخاذ القرار لتحويل الاتجاه والابتعاد عما أصاب الطريق من انهيارات والدوران حول العوائق والتنبيه إلى النباتات المخفية للارتفاعات فقد تخدعك بالدوس والارتكاز عليها وتسبب سقوطا من علو، خصوصا أن بعض الدروب الرفيعة لم يتجاوز عرضها الربع متر، فكانت الطبيعة تجبرنا على اختيار المسار أو تسيرنا لاكتشاف جديد فكنا نترك علامات متعارفا عليها للمارين من بعدنا لهواة المسير وأهل المنطقة تسمى « بالصرابيط» حجارة يوضع بعضها فوق بعض، أما ان وضعت حجرين متوازيين ببداية الدرب فذلك يعني أن الطريق خطر ويتطلب الحذر وإن أضفت فوقهما حجرا بالعرض فيشير إلى أنه مغلق تماماً.
عرف الوادي الاستيطان البشري تاركين لنا من إرثهم عددا من الخرب الأثرية غير مدرجة على الخارطة السياحية؛ كخربة المقلوب في بداية قرب رافده وادي المريبعة ودير حلاوة على كتفه الجنوبي وبطمة سنان وبقايا الكنيسة البيزنطية، التي أقامها الرهبان لخلوتهم فوق الرشراش، وعراق الدب ووجد أسفله أرضيات بيوتية لمستوطنين ذات قبور وجماجم قد طليّت بالجص وبعضها ختمت أفواهها بالشمع، تعود للعصر الحجري، وما كان يميز الدفن هو الجانب الذي يسجى علية؛ فالذكر على الأيمن والأنثى على الأيسر.
السوسنة السوداء
صمت كبير يخيم على المكان، حيث لا تسمع فيه سوى خرير الماء وزقزقة العصافير ونقيق الضفادع بوقت تزاوجها، إلا أنه كان هناك حمار، قد جرح هذا الهدوء بنهيقه الحزين، معترضاً على ما حُمل على ظهره من كم هائل مما تكسر من جذوع الأشجار ومخلفات التقنيب مجبراً على صعودٍ حاد لرأس الجبل، وهذا الصوت الحزين ولننظر إلى اتجاهه كان لنا الدليل إلى ضالتنا السوسنة السوداء بمساحة محدودة، بل لم نصادف غيرها على طول المسار الذي امتد على نحو سبعة عشرة كيلو مترا بمستوى متوسط عالي الصعوبة، بعدها أخذنا صورا لها ومعها وأكملنا مسيرنا محددين استراحتنا الأولى عند القاطع الصخري العالي قرب محطة التنقية، وهو المهرب الوحيد الى المعبد القاطع للوادي نحو الحلاوة، وهناك التقينا بمغامرين من رواد ركوب الدراجات الهوائية في البر والطرق الترابية، سالم ودانتي المومني، من فريق «الدراجون المغامرون»/ عجلون، لنجتمع بالجلسة والإفطار الخفيف متشاركين ما معنا من طعام وفواكه.
استمرت الرفقة لغاية بلوغنا قمة الشلال العظيم الرشراش ذي الصوت القوي الهادئ والأفق البعيد الممتد للنهر المقدس وما غربه من أراضي فلسطين وتحت نظرنا وادي بسنا وقناة الرق ومخاضة فتح الله وغور فارة، فهذا المشهد لم يمنعنا من إعادة إشعال النار وشرب فنجان قهوة بموقع الكنيسة البيزنطية التي عاث فيها الباحثون عن الذهب عبثا وتركوها خرابا إلا جزءا يسيرا مما تبقى من نقوش فسيفسائية تخلد تاريخا عظيما، لم نجازف بالنزول لبركة الشلال لشدة الانحدار، وخطورة الانزلاق الناتج عن رذاذ الماء المتطاير من قوة الانهمار من ارتفاع 65 مترا.
وللزيتون أسراره!
وبعد هذه الجرعة الروحانية استكملنا صعودنا الحاد لنبدأ بالنزول الذي لا يقل عنه صعوبة، نحو بلدة كركما «كركم الفوقا» صوب البلدة القديمة وما هجره أهلها من عقود ومساكن وآبار، قد عمرت قبل ما يزيد على مائة وعشرين عاما ولم تتأثر كثيراً بالعوامل الطبيعة على مر العقود، حيث يمكن إعادة الحياة إليها لتكون مركز سياحة بيئية تحت مستوى سطح البحر للدراسة والاستجمام والخلوة، ومقابلها وبين مزارعها كان الكثير من المستجمين الباحثين عن شيء من الدفء لنختار مكاننا القريب منهم، وتجهيزنا لطبق الرشوف سهل الإعداد بعد سلق مكوناته من عدس وحمص وبصل مقلي بالسمن البلديّ وإضافة لبن المخيض الذي اشتريناه من نفس القرية، وهكذا انتهى المسار الذي ترك فينا تساؤلا حول شجر الزيتون القديم وسبب وضع الحجارة في جوفه؟ لتكون الإجابة أن الزيتون بعد أن يكبر في العمر قد يتفسّخ ساقه فيتم حشر الحجارة تباعا ً بالشق حتى ينفصل وبعدها يُؤخذ جزء ويزرع كاملاً في مكان آخر ليعود الأصل أكثر عطاء وقوة.
الدستـــــــــــــــــــــــــــــــور ..