أسرار وخفايا «التعاطف» الأمني مع المتظاهرين في الأردن / بسام البدارين

أسرار وخفايا «التعاطف» الأمني مع المتظاهرين في الأردن

بسام البدارين

طوال ثلاثة أشهر قبل عاصفة التغيير الأخيرة التي «غيرت» شكل الأردن السياسي والاجتماعي، كانت التقارير الأمنية العميقة ترفض التسليم بنظرية رئيس الوزراء الراحل الدكتور هاني الملقي بعنوان» ولت بلا رجعة أيام الحراك الشعبي».
تجاهلت حكومة الملقي تماما هذه التقييمات ومضت قدما وبدون تشاور مع العمق الأمني بالتفاصيل نحو تسطير قانون الضريبة الجديد وبلغة مقيتة سياسيا «أرعبت» بقوة قطاع المال والأعمال والاستثمار وتحديدا من جزئيتين هما، النص بالتشريع على حق جهاز الضريبة بالاطلاع على حسابات الأفراد والشركات في البنوك، وثانيا النص بالتشريع نفسه على «عقوبات» تصل إلى السجن عشر سنوات في حال التهرب الضريبي.
دافع وزير المالية آنذاك بحرارة عن النصين المشار إليهما وتحدث بهما عدة مرات عبر أجهزة الإعلام.
تشكلت فورا بسبب الفقرتين المشار إليهما «طبقة كاملة ونشطة» من رموز قطاع الأعمال تدفع باتجاه التصعيد بعدما اربكتها عبارة كان يرددها الوزير ملحس «أنا تركت وظيفة بمليون دينار بالقطاع الخاص لأخدم البلد ولن أتراجع عن الإصلاح وأنا عينت بقرار من فوق».
هذه الطبقة دعمت عبر ممثليها في النقابات المهنية فكرة «الإضراب العام».
وفي الأثناء عندما حاول النقباء التحدث مع رئيس الوزراء الدكتور هاني الملقي على أمل النزول معا عن «شجرة التصعيد بالإضراب» أطلق الرجل عبارتين قال في الأولى ان قانون الضريبة «لن يسحب بأي حال» وفي الثانية أنه رئيس حكومة عينت «من فوق» ويقيله فقط من عينه وليس الشارع.
إلى هنا كانت حكومة الملقي تدير مشهدا اعتياديا ومألوفا حيث المضي قدما بسن تشريع غير مرغوب شعبيا، الأمر الذي سبق ان حصل عشرات المرات.
مؤسسة الأمن العميق كان لها تقدير سلبي عن تداعيات القانون على احتمالات عودة «التذمر الشعبي» حتى في هذا التجلي لم يخطر في ذهن المستوى الأمني الحكومي بان بوصلة الاحتجاج ستعصف بالحكومة في النهاية.
عنصران جديدان تماما «باغتا» حكومة الملقي وأسسا لأول حالة أرعبت الجميع بالإضراب الناجح وهما انضمام طبقة الصناعيين والتجار وتحرك مباغت وجماعي ضد القانون الضريبي بتوقيع الطبقة الوسطى.
احتفظت حكومة الملقي بتشددها لكن الصاعقة برزت بعد ذلك. الإضراب العام النادر ينجح وبنسبة «85 في المئة» على الأقل في مدن كاملة، في معلومة فاجأت الجميع في دوائر صنع القرار التي التقط بعضها مبكرا الرسالة ورفع الغطاء عن حكومة الملقي بهدف إجبارها على «تعديل» بعض نصوص القانون وليس «إسقاطها».
هنا وفي تلك اللحظة رفع حيتان اللعبة فجأة الغطاء عن حكومة الملقي عبر تصريحين، الأول لرئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز يوم الإضراب تحدث فيه عن حق دستوري يمارسه المواطن الأردني والثاني لرئيس مجلس النواب عاطف طراونة قال فيه «نصحت الملقي ووقع في الفخ».
الإيحاء واضح في هذه اللحظة يوم الإضراب فقد سقطت ورقة الملقي واستشعر الفايز والطراونة ذلك فأجهز لاعب محنك من وزن الدكتور عبدالله النسور على ما تبقى من الحكومة عندما قاد عبر مجلس الأعيان عملية التنديد بقانون الضريبة الجديد بعدما تحرش بتجربته بعض وزراء الملقي.
حتى اللحظة لم يصدر أي توجيه مرجعي ومركزي بأن الحكومة قيد السقوط وحصلت كل هذه التفصيلات فيما الملك عبد الله الثاني في رحلة عمل خارج البلاد.
وعندما وصلت البرقيات التي تفيد بنجاح قفزة مدنية باسم الإضراب لم يتبدل جدول أعمال الزيارة الخارجية للملك وبدا ان القرار يتجه للاستثمار بالإضراب مع المجتمع الدولي على أساس انه صنف من الحراك المدني السلمي الذي قد تقبله الدول الغربية.
الملقي بعناده المألوف وملحس بغروره المنقول امتنعا عن قراءة «المتغير» المتمثل في حراك الفايز والطراونة المباغت ضدهما.
لحظتها ولدت صيغة «تعالوا نبحث عن حل» عبر مجلسي الأعيان والنواب وظهر ان الاضراب الناجح يربك الجميع ويباغت سلطات القرار التي سمحت بإطلاق «عملاق مدني» دفع الشارع بتأييد نادر من الطبقة الوسطى وتحريض أندر من التجار والصناعيين والنقابيين للخروج للميادين.
هنا رفض الوزير ملحس الاستسلام فطرح ورقته المثيرة جدا والتي كانت بمثابة القطع «المؤسسي السيادي» مع وزارة الملقي عندما لوح بعدم دفع رواتب.
أخطر ما في تلويح الوزير ملحس هنا انه طرح أسوأ رسالة في أسوأ وقت ممكن لرجال الأمن والعسكر المتواجدين في الشارع لحماية قانون ضريبة سيلتهم رواتبهم.
أزعج ملحس بهذا التصريح الغريب المؤسسات السيادية لأنه ببساطة شديدة أدى للمحظور الذي لم يكن ممكنا في يوم من الأيام وهو «تعاطف رجل الأمن في الميدان مع المواطن ضد قانون الضريبة» لأن رجال الأمن عمليا في الأردن في غالبية ساحقة من أصحاب الرواتب المتدنية.
هنا تحركت العبقرية الأمنية فقررت حماية المتظاهرين والحراك وتأسيس حالة وطنية لحفظ الإيقاع العام بعد التصريح الغريب للوزير ملحس الذي استفز هذه المرة البنية الأمنية وليس فقط الناس فسقطت ورقة الملقي أيضا عند مؤسسات عميقة.