كنانة نيوز –
شؤون ثقافية –
جولة في رواية الأقدام السوداء للأديب محمد فايز حجازي
بقلم الشاعرة والأديبة الناقدة نهى الرميسي
يحلو للبعض أن يعزو بعض الاكتشافات الكبرى إلى الصدفة المحضة ، مثلا نيوتن واكتشاف قانون الجاذبية بعد سقوط تفاحة على رأسه بينما يجلس فى الحديقة،ولكن كم سقط على رؤوس البشر من تفاحات؟ ، وكذلك ارشميدس حين صرخ قائلا وجدتها وهو يطفو فى حوضه مكتشفا قانون الإزاحة ، بينما فى الحقيقة كم سبح البشر فى الأحواض والحمامات ، إذن وبقليل من التدبر سنتأكد من أنها ليست الصدفة، وإنما هو العقل المبدع المنشغل بالفكرة والمهموم بقضيتة، وربما هى النظرة الثاقبة والمتأملة للكون من حولنا ،أو ذلك الذهن المتقد الذى لايمر على الأشياء ببلادة العادة، أو أن كلها مسارات مثلت زخما وتكريسا أشعل الومضة الحقيقية للابتكار والإبداع .
وهكذا يمكننا الفهم الأولى للعقل المبدع خلف تلك الرواية ،رواية (الأقدام السوداء) للكاتب محمد فايز حجازى .
فلم يكن مجرد عمله فى مجال النفط هو الصدفة خلف كتابة تلك الرواية التى تضم الكثير من المعلومات عن هذا المجال بل تجرى معظم أحداثها فى أحد حقول البترول.
ليسجل الكاتب من خلال الأحداث و تصارع الحبكة الدرامية حجم المخاطر وقدر السطوة الهائلة للشركات العاملة فى هذا المجال وعلاقتها بالهيمنة العالمية ،ثم يحاول طرح أفكاره على العامة من قبيل تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة ، فكم شخص صادف تلك المعلومات عن ادوين دريك وعن أول بئر نفط حفرها فى بنسلفانيا؟ ،أو عن خطط العمل فى مواقع البترول المختلفة ؟
لكن من الواضح أن روح المبدع كانت ملازمة للكاتب فى حياته اليومية حتى يقتنص منها صيدا ثمينا من الإبداع لم يمتثل لغيره ممن سلكوا نفس الدروب.
ولذا سنجد بين أيدينا رواية مبنية على حقائق تاريخية ومعلومات علمية موثقة بالرسوم التخطيطية أحيانا، وبكثير من براعة الوصف سواء وصف الأماكن أو العمليات التقنية أو الأشخاص ، وهو مايزيد من قيمة الرسالة الهادفة لهذه الرواية .
فالكاتب يفتح لنا الباب على مصراعية لتجتلى أمامنا الرؤية لعالم لانعرف كثيرا من خفاياه ،ولم يكتف بفتح الباب لتنكشف الرؤى وإنما يأخذك الكاتب فى رحلته بتفاصيلها التقنية والفنية ليضع أيدينا على العناصر المكونة لأفكارنا الكلية المسبقة.
أما إذا ماتتبعنا تقنيات السرد فى هذه الرواية فسنقف على كثير من المدهشات ، وفى اعتقادى أن كل جديد مبتكر فهو مدهش مادام فى إطار المفهوم المنطقى ، ومثال ذلك ماقام به الكاتب فى مدخل الرواية حيث صنع لنا حكاية درامية من معلومة حول “ادوين دريك” مكتشف أول طريقة لحفر بئر البترول ،لتكون تمهيدا قويا مؤسسا لأحداث الرواية فيما بعد وقد أجاد الربط بين هذا الماضى القريب فى قصة دريك والواقع الحالى من خلال ذلك التصور الواقعى على خفاءه المنطقى، وعلى استتاره عن العامة، حين جسد قوى الشر العالمية فى شكل منظومة مهيمنة تحرك خيوط العالم من طرف خفى .
وقد تركك فى نهاية القصة الأولى متحفزا لاستكمال مابعدها حين تركنا مع تساؤلاتنا هل انتهت قصة “دريك” فينقلنا بعبارة ذكية بسيطة ليسلمنا إلى ماهو آت ،حين يقول:
(بعد عدة أيام وفى مكان بعيد كل البعد عن ولاية بنسلفانيا فى قارة أخرى وبالتحديد فى ….)
وهكذا ينتقل من فصل إلى آخر بنفس مستوى التشويق والإثارة متقلبا بين الأحداث وبين صيغ الحكى المختلفة أحيانا بصيغة الراوى العليم وأحيانا أخرى بصيغة الراوى المشارك أو الراوى الشاهد أو بصيغة الأنا ،وقد يعترض النقاد على تداخل تلك الصيغ السردية بينما أجاد الكاتب فى استخدام أسلوب الالتفات حين تنقل بين هذه الصيغ .
ومن تقنيات السرد الموفقة لدى الكاتب أيضا اللجوء إلى تقسيم الرواية إلى مقاطع صغيرة قوامها صفحة أو نصف صفحة أحيانا وذلك مما أفاد فى كسر رتابة السرد التاريخى الذى كان لابد له منه .
ومن ذلك أيضا إجادته للحبكة الدرامية المضفرة بالقصة العاطفية والمطاردة الساخنة بين قوى الشر والخير ، ولم يكتف فيها بنجاة أهل الخير بل جاءت النهاية لتؤكد على أن أبناءهم من الجيل الجديد سينجحون فى القضاء على قوى الشر وليس من الإفلات من قبضتهم فقط كما فعل الآباء .
ومن ذلك أيضا تلك الجديلة المحكمة التى أراد بها التأكيد على أن ليس للعرب من خلاص سوى بوحدتهم وحدة عضوية كاملة وقد رمز لذلك بشكل واضح فى قصة الحب التى انتهت بالزواج بين البطل المصرى والحبيبة الجزائرية وقد كونوا مع بيئتهم محورا مهما فى مواجهة الآخر الطامع فى ثروات بلادهم .
أما إذا ذهبنا للنظر فى أسلوب الكاتب فسيدهشنا الكثير من البراعة الفائقة فى مستويات اللغة والوصف البلاغى ،فمن المعروف أن الوصف من العناصر المهمة فى كتابة الرواية وهو يحتاج من الدربة لإتقانه كى يبهر القارئ خاصة إذا كان الوصف فى الرواية مساهما فى تطور الأحداث ويعكس لنا بشكل غير مباشر الحالة النفسية للشخصيات.
ولم يقع الكاتب فيما يُخشى عليه منه فى مثل هذه الرواية القائمة على التقنيات والآلات والأجواء الصحراوية والأحجار البكماء والماكينات الصماء والملابس الموحدة وبقع الزيت الأسود، فستجده مغرما باستنباط المشاعر من هذه الآلات وتلك الأحجار بل هو يستنطق الآثار والأحجار لتحكى له التاريخ وتخلع عليه بردتها الحضارية والثقافية وقد عاش بين أكنافها فى حى السيدة وفى القاهرة التاريخية ،بل إن الأشياء التى نخالها صماء ينفث فيها الكاتب من روحه حتى تصاحبه فى الحالين عند اجتياح المشاعر لنفسه وتأججها أوفى حال الصفاء والخلوة والتحليق والارتقاء .
فيقول:ثم تأتى إلى السطح عينات الصخور المحفورة عند أعماق كبيرة ،ألمسها بيدى وأحللها بالمواد الكيميائية ،أعرف طبيعتها يقينا وأتأكد بعينى مما ذهب إليه خيالى ودراستى ….
ثم يستطرد قائلا: فجموح الخيال هو القاسم المشترك بين ثلاثتهم ، الموسيقى والقراءة والجيولوجيا .
ولن أقف كثيرا عند المدلولات الموفقة فى اختيار العنوان(الأقدام السوداء) فسيلمسها القارئ دون عناء أو استرشاد .
بصفة عامة من يقرأ الرواية سيتحقق له كثير مما هو منشود من القراءة، المتعة والتشويق ورشاقة الأسلوب وجاذبية التعبيرات وبراعة الوصف وسلامة اللغة، وفوق كل هذا الفائدة والمعلومات ويقظة الوعى .