الخفاء والتجلي في ديوان “عاشق وكفى” للشاعر الدكتور إبراهيم الطيار/بقلم الشاعر والناقد عبدالرحيم جداية

كنانة نيوز –
شؤون ثقافية –
الخفاء والتجلي
في ديوان عاشق وكفى
للشاعر الدكتور إبراهيم الطيار
 
بقلم: الشاعر والناقد عبدالرحيم جداية
 
توطئة:
العشق حالة إنسانية، لا نميز بها الفقير من الغني ولا الذكر من الأنثى، فالعاشق في حالته الإنسانية طاقة إيجابية غالبا رغم سلبياتها في بعض المواقف، فالعشق دافعية للحياة والوجود، والعشق محرك الأحاسيس والمشاعر، فالعشق عاطفة إنسانية، والعشق فكرة مثالية ينبض بها القلب، وتهيج لها المشاعر، وتلتهب العواطف، فالعشق وجود وفناء، وهو سبيل الفرد إلى التحرر من قيود المجتمعات، التي تضبط وتقنن هذه المشاعر الإنسانية الجياشة، التي تغلب المرء على نفسه، فيهيم على وجهه، كما هام قيس ليلى، وجميل بثينة، والعشق العذري لا تغلبه الحالة الجسدية الحسية، بل تحلق به الروح العاشقة.
فالعشق ثنائية الوجود والحياة، فإن كان العشق أحاديا فهو عشق المرء لنفسه، حيث تغلب النرجسية على حالة العشق، وتخرج من إطارها الثنائي، فالعشق شراكة بين اثنين، بين الشخص وضده أحيانا، أو بين الشخص ومن يكمله في هذا الوجود، فالذكر والأنثى نموذجان للعشق، فمن يعشق الآخر؟ يبقى السؤال حائرا، فقد تعشق الأنثى، وقد يعشق الرجل، وقد يتبادلا العشق بحثا عن ثنائية يكمل بها أحدهما الآخر في بناء طبيعي للحياة على هذا الوجود.
 
متغيرات العشق:
وقد يكون المعشوق شجرة، أو بيتا، أو أرضا، ويكون العاشق الولهان لهذه المعشوقات ابن لبيئته، وزمانه، ومكانه، فالتاريخ عشق، والمقاومة عشق، والثورة عشق، ورائحة التراب عشق النبلاء، وكلها متغيرات في ثنائيات التجلي والخفاء، للوصول إلى كنه القصيدة، وملامح ديوان “عاشق وكفى” للشاعر الدكتور إبراهيم الطيار، الذي اشتغل على هذه المتغيرات، في ثنائيات ضبطها على مساحة الديوان، ومن هذه المتغيرات التي أبدعها الشاعر في ثنائية الخفاء والتجلي: عشق الماضي والتراث، عشق الشعراء والمفكرين، والباحثين والأدباء، فالعين تعشق، وهذا كثير الإنطباع، والأذن تعشق، كما قال بشار بن برد: “يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا”
 
آراء في العشق:
قال ابن حزم الأندلسي الظاهري في كتابه “طوق الحمامة في الألفة والإلاف”، بأنه تعرف إلى رجل عشق امرأة رآها في المنام، فظل يبحث عنها دون طائل، وكتاب “الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي، يحيلنا إلى قيمة هذا العشق في تحقيق الوجود، حتى يتحاور العقل مع العاطفة، فإن بقي العقل مسيطرا فقد تجف الحياة، ولا يبقى لها معنى، والعشق لا يحده عرق ولا طائفة، ولا مذهب أو دين، فروميو عشق جولييت في مسرحية شكسبير، وهما من عائلتين متنافستين متناحرتين.
 
عتبات الديوان:
إن كان هذا هو العشق، فلماذا أطلق الشاعر إبراهيم الطيار على ديوانه عنوان “عاشق وكفى” هذا العنوان الذي يشكل عتبة أولى للباحث لدراسة الديوان، فهو يعترف بعشقه، ولا يجرم نفسه في هذا العشق، وهذه عتبة ثانية للولوج إلى هذا النص، فهو ابن الكنانة في شمال الأردن، وهو ابن سحم في لواء بني كنانة، وهو ابن الشعلة المطلة على معركة اليرموك عام 636م ، مما يشكل عتبة ثالثة لولوج النص، فمكنون عشق الشاعر للمكان عتبة جديدة، حيث يقول الشاعر الطيار في مقدمة ديوانه ” من زوايا القلب ينبثق العشق فيرسم طريقه عبر النبض، وعبر العيون نحو فضاء واسع لا يعلمه إلا العاشق”، ويكمل بقوله في مقدمة الديوان عاشق وكفى: ” فإذا مس العشق الكنانيين كتبوا لبلادهم وللقدس، وعبروا عن أنفسهم بلغة الحب” ويكمل بقوله مؤكدا على عشقه لليرموك النهر، وجدارا حاضرة طبريا، فالعشق يربطه بالمكان، كما يربطه بيرموك النصر، فهو يعلم بأن الأرض لا يرثها إلا المخلصون، ويختم في مقدمته بقوله ” فما الضير أن يكون الفرد عاشقا وكفى”، حيث شكلت مقدمة الديوان، التي كتبها الشاعر عتبة خامسة لدراسة النصوص الشعرية في ديوانه، فبعيدا عن هذه العتبات، فإن الرأي النقدي يلامس خصوصية الشاعر في بناء نصه الشعري.
 
التجلي والخفاء:
فالشاعر الطيار في ديوانه، يعي العلاقة الجدلية بين العشق والمشاعر الإنسانية، بين كائن بشري ومكانا حيا بالزمان، ويقول الشاعر الطيار صفحة 9 ” فقد تجلى عشق الله في التصوف، وتجلى عشق عنترة في ليلى، وتجلى عشق الفنان في الطبيعة” وهذا المقام يحملنا إلى الناقد السوري الكبير كمال أبو ديب في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي)، فالنفس البشرية إشكالية في الفهم والتفسير، مما يخلق جدلية التجلي والخفاء، فهل يقصد الشاعر في ديوانه عاشق وكفى، التأكيد على التجلي أم التأكيد على الخفاء؟، يؤكد الشاعر الطيار على قيمة التجلي، فعندما تجلى الله سبحانه وتعالى للجبل، جعله دكا، فخر موسى صعقاً، فالتجلي حالة العاشق، الذي استبد به العشق، مثل عشق ليلى الأخيلية لحبيبها توبة، وأكثر العشق يعيش في الخفاء، حيث تتقد النار تحت الرماد، ولا تنبثق إلا عندما ينطلق الفينيق من رماده، وأول هذه المراحل في العشق هي:
 
أولا: قصيدة كنانيون ص14 هي أول مراحله في العشق، والتي يستهلها بقوله على الوافر..
” علامَ الشوق يا بلدي تنامى
وأزهر في ثرى أرضي سلاما
كنانيون إنا سوف نمضي
مع النسمات في زهو الخزامى”
فقصيدة كنانيون، هي قصيدة التجلي والخفاء، هي قصيدة العشق والإنتماء، وقصيدة الإرتباط في الأرض، قصيدة يطلق فيها الرجال جنوداً، قصيدة تحمل علامات الشهادة، قصيدة تجعل من الأرض محرقة للغزاة، قصيدة التاريخ والإرث، ويؤكد في تكرار أسلوبي لفظة “كنانيون”، فهم الكنانيون الغيارى على الوطن، وهم الكنانيون أصحاب المجد، ويشبه نفسه وأهله بزيتون بني كنانة، فيقول في قصيدته:
“سنبقى يا بلادي أهل مجد
ونرمي من يعادينا سهاما
كزيتون البلاد بنا صمود
ونور الزيت من دمنا تسامى”
ونور الزيت هذا يحيلنا إلى قوله تعالى في سورة النور الآية 35: ﴿ ۞ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
 
ثانيا: وقد أطلق الشاعر مقطوعة شعرية ص17 بعنوان (مسني الشوق)
فالشوق إن مسّ يثير المشاعر، وينطلق من الخفاء إلى التجلي، ويبدو أن الحيطة والخشية كانا سببا لهذا الخفاء، وتجلت المقطوعة بقوله:
” يا ربّ هذا الذي قد كنت أخشاه
قد مسني الشوق إذ ما الحزن غذاه”
لينطلق الشاعر من ثنائية الشوق بين الخفاء والتجلي إلى ثنائية الشوق بين الخشية والحزن.
 
ثالثا: فالشاعر عاشق للسمراء في قصيدته التي مطلعها:
” سمرا كأنفاس الصباح تدللي
ودعي العتاب على الأرف وأقبلي”
فالخشية والحزن ينبتان العتاب، عتاب في حوار داخلي على شكل هواجس، لكنه يحررها من قيودها، من قيود العتاب والخوف والحزن، متخذا قرار العاشق الذي يكتب الأشواق تاريخاً، ويرسم التبتّل في الأحداق، شاعر متدفق المعاني، فالعتاب تتبعه اللوعة، والحزن يتبعه الدمع، لكأنه الغريق بعشقه، فهو المتوسل لها في خاتمة قصيدته بقوله:
” سمراء عودي نجمتي وتدللي
وانسي عتابي قد سئمت توسلي”
 
رابعا: فمن الأنثى السمراء، التي أخذت لونها من تراب الأرض، إلى البلاد، والأهل، والأصالة، والمجد، والشرف، والسمو، والعلياء، فيقول في قصيدة (بلادي) ص21 :
“هذي بلادي من شهامة أهلها
تأبى الأصالة أن تفارق ظلها
المجد والشرف الرفيع مباهياً
يسمو إلى العليا ليبقى قربها”
فالشاعر العاشق إبراهيم الطيار، لا يتحرر من غريزة العشق، فهي إرثه التاريخيّ، وهي الكرامة والرجولة، وهو المتحدي لكل غادر، ويبوح في خاتمة قصيدته بلادي ص21 مثبتا بلاده عهداً وموعدا، إذ يقول:
“أردن يا عهدا بشرقك موعدٌ
فيك الرجولة سوف تنفذ وعدها
أبدا ستبقى في العلا راياتنا
محروسة بالعين بل في هدبها”
لا يقف الشاعر إبراهيم الطيار على ذكر البلاد، بل يمنحها صورة جمالية وفنية، بطلها الإستدراك، فهو الذي يحمي الأردن بعينيه، فيضيف الجمال حين يستدرك، ليس بعينيه فقط، بل في أهدابها، فبين الرمش والعين، وفي الأحداق تعيش بلاده، فهو شاعر إنسانيّ النزعة، صاحب حكمة، ورصانة، أمسك بالشعر الكلاسيكي، وفوّض إليه مشاعره، وعواطفه، وصوره الفنية في العشق، وبعدها قال كفى، ما بعد العشق إلا التضحية والفداء، فالعشق تاريخ أصيل يطل إليه من شرفة الشعلة إلى نهر اليرموك، وهو يجري ويفيض على أطرافه فتنبت الورود، وينضج البيان في شعره، ويبدو ذلك جلياً في قصيدة (اليرموك) ص28، التي لا يحدها بتاريخ أو مكان، ولا يحدها بماء أو تراب، فاليرموك رمز مطلق في ضمير العشق عند الشاعر إبراهيم الطيار في قوله:
” إلى اليرموك شوقي قد دعاني
فأسرجت القصيدة والمعاني
وأغرقت البيان ببحر شعر
فعاد إليّ بالدّر المصانِ”
ومن اليرموك يحمل رسالة إلى القدس في ص31 يقول فيها:
” هزي إليك بجذع صابه الهزل
واروي الجذور بجرح مسّه الأمل
واستوقد النار من جذع ألمّ به
روح الغمام فما للنار تشتعل
علّ النداء فإن القوم في صمم
فالذل أرعبهم والخوف والخجل
ما زلنا يا قدس نرعى عهدنا أبدا
فلتوقد النار علّ بعضهم يصل”
 
خامسا: وكما يخاطب الجميلة بالتمني، فإن القلم حاضر لكتابة عواطفه، ومشاعره، وفي بيتين يخلّد فيهما جدارا ص37 يقول:
“رسم الفؤاد على ثراك مسارا
وانساب نبضي في الهوا أشعارا
شوق تبدّى للعيان مبعثراً
ما بين تلة خالد وجدارا”
 
سادسا: وقبل الختام فإن ديوان عاشق وكفى للشاعر الدكتور إبراهيم الطيار، يحمل كل ملامح العشق، العشق للحبيبة ، والعشق للتاريخ والتراث، وعشقه إلى الكنانة والقدس، و جدارا المكان الحي في الضمير الأردني والعربي، ويحمل عشقه للمعلم والقلم، فكثيرا ما يثور مثل بركان، أو يأنس في محاورة صديق أديب رقيق، سامي المقام، صاحب الحضور في الساحة الثقافية الأردنية، الأديب موسى النعواشي، إبن جدارا قائلا له في قصيدة (أيها النعواشي) ص53:
“سلمت لسانك أيها النعواشي
فلسانهم سقم وفي الإنعاش
ساد القصيدة حادق وجميلة
وتصرف بالنحو دون نقاش”
فهو في هذه القصيدة يشكو للنعواشي مصائب النحو واللحن، والخطأ في اللغة العربية، التي يقدم عليها بعض الدخلاء، وهذا تكرار لما حصل بين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فقد قال أحمد شوقي في قصيدته للمعلم:
” قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا”
فرد عليه حافظ إبراهيم معارضا أحمد شوقي:
“شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قم للمعلم وفه التبجيلا”
قصيدة الشاعر الطيار إلى صديقه الأديب النعواشي هي حالة إنسانية، تضاف إلى العديد من القضايا في الأدب العربي، وهي مقاربة فنية جميلة لأحمد شوقي مع حافظ إبراهيم.
 
الخاتمة:
إن التجلي يظهر في أحوال ومقامات مختلفة أهمها: تجلي الله عز وجل للجبل عندما طلب موسى من الله أن يراه، وهو كليم الله، فقال له أنظر إلى الجبل، فتجلى الله للجبل فدك الجبل من خشية الله، وخر موسى صعقا، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف آية ١٤٣ ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكࣰّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقࣰاۚ ﴾ .
والحالة الثانية من التجلي: ما ورد في كتاب الدكتور كمال أبو ديب (جدلية الخفاء والتجلي) والتي برزت في الإشكاليات والثنائيات التي وظفها الشاعر الدكتور إبراهيم الطيار في قصائد ديوانه (عاشق وكفى)، التي قامت على رؤية مكانية شكلت جدل الشاعر مع المكان الذي عشقه، وما يقصد بالجدل هنا هو الصورة الذهنية المتحركة عند الشاعر في حالة التمثل، حيث تتحول الصورة الذهنية في حالة التمثيل إلى نص شعري في صورة فنية أبدعها الشاعر.
أما التجلي الثالث فهو الفضاء الشعري الذي تمثل في نزعته الدرامية، ودقة الوصف، وصدق العاطفة في حركة الشخوص في الزمان والمكان، وأهم الشخوص الذين تمثلوا بقوله: (كنانيون) قاصدا عموم أهل بني كنانه، وأهم الأماكن: جدارا واليرموك نهرا وموقع المعركة التاريخية.
ويمكن للنقاد أن ينفذوا إلى المزيد من روعات التجلي في قصائد ديوان عاشق وكفى للشاعر الدكتور إبراهيم الطيار، فلا يحيط ناقد تجليات شاعر في قصيدة، فكيف له أن يحيط بديوان يفيض بالجمال؟.