الثقافة الموسوعية “بين الترف والمنفعة”/ الدكتور إبراهيم علي الطيار
مشاركة
كنانة نيوز –
الثقافة الموسوعية “بين الترف والمنفعة”
سلسلة مقالات في الفكر والتفكير والثقافة
كتبها الدكتور إبراهيم علي الطيار
مع الاختلاف الكبير والجدلية المستمرة حول مفهوم الثقافة وتعريفها، إلا إن أغلب الذين حاولوا الحديث حول هذا الموضوع خلطوا ما بين المعرفة بشكل عام والسلوك المرتبط بها، وأثر تبني الإنسان لعقائد فكرية معينة من شأنها أن تنعكس على سلوكه وتأثيره الاجتماعي بشكل إيجابي، حيث اعتبر العديد من المشتغلين بهذا الأمر إن الثقافة هي ذلك الكم من المعلومات ضمن مجالات معرفية مختلفة يتم جمعها من عدة مصادر وتخزينها واستعادتها عند الطلب أو الحاجة، وبشكل ينحصر في هذا الأمر فقط ولايؤثر على سلوك أو شخصية الفرد.
وقد جاء الخلط هنا شكلياً حيث إن جمع المعلومات قد ينعكس على بعض الألفاظ أو السلوكيات الشكلية من دون أن يترك أثراً جوهرياً دائماً على سلوكيات الفرد، فالمعرفة وجمع المعلومات واستردادها هو أمر يرتبط بالذاكرة والتذكر التي تعتبر أدنى المهارات العقلية والتي قد تمتلكها الحيوانات أيضاً، إلا أن الله تعالى عندما خلق الإنسان ميَّزه بالعقل وهو مصطلح جامع لمهارات وعمليات عقلية وفكرية متسلسلة تبدأ بالتذكر ثم الفهم والاستيعاب والربط والإدراك والتمثيل والنقد والاستنتاج والابداع، إذ إن هذه القدرات لم يمنحها الخالق للحيوانات بل خص الإنسان وكرَّمه بها.
وإن جمع المعلومات والاحتفاظ بها هو أمر لا يتعدى المهارة العقلية الأدنى من المهارات العقلية والتفكيرية للإنسان، فلا يوجد فرق بين من يجمع المعلومات ويحتفظ بها فقط وبين الحاسب الآلي، والذي يحتفظ بكم هائل من المعلومات قد تفوق قدرة ذاكرة الإنسان في أغلب الحالات، لذلك فالعقل الواعي والمثقف لا يقف عند حد الحفظ والاسترجاع للمعلومات بل يصنع منها بعد الربط والتحليل والاستنتاج سلوكاً فارقاً وحضارياً مميزاً يُعبر عن أفكاره التي كونها نتيجة المعرفة التي يمتلكها.
ومما لا شك فيه إن التعلم والقراءة والتجارب اليومية قد تساعد الفرد كثيراً في بناء القاعدة المعرفية الخاصة به، وقد تجعل منه متخصصاً في مجال معين يبحر في المعلومات الخاصة بتخصصه من أجل نقلها إلى الغير مثل الكتاب أو الحاسب الآلي، وهذا يختلف تماماً عن مفهوم الثقافة التي تؤثر في السلوك الإنساني وتقومه وتسهم في بناء الأفراد والمجتمعات، فصاحب المعرفة البحتة أو الثقافة الموسوعية هو مخزن للمعلومات فقط، والتي قد تصل إلى حدالترف الفكري في حال عدم توظيفها في بناء قاعدة فكرية ومعرفية مفيدة في تبرير وتدعيم مبادئ الفرد وشخصيته وآرائه التي يهدف من خلالها لأن يكون فرداً مؤثراً في مجتمعه يتبنى قضاياه ويسهم من خلال معرفته التي أثرت في سلوكه بالبناء والعطاء والتميز وخدمة المصلحة العامة وترك أثر إيجابي مفيد، فالإنسان في كل وقت ليس بحاجة إلى الترف الفكري بقدر ما هم بحاجة إلى ثقافة فاعلة ومؤثرة وضرورية له ولغيره.
حيث إن الثقافة الموسوعية أو المعرفة البحتة في واقعها لا تصنع التغيير بل تعتبر قاعدة هامة لذلك التغيير المرغوب، وإذا اكتفى صاحبها بها تصبح نوعاً من الترف المعرفي الذاتي فقط، أما إن استفاد منها في بناء قاعدة لتغيير السلوك الفردي والمحيط البيولوجي له فيكون قد حقق المنفعة منها والهدف المرجو، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال على سبيل المثال “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” لم يكتفي بالحفظ أو التعلم الذاتي فقط بل كان شرط الخيرية هنا هو التعلم والتعليم وليس الحفظ فقط.