الحلقة ( 23- 24 ) من رواية شارع ايدون.. اضاءات من الذاكرة / د.محمد حيدر محيلان
مشاركة
كنانة نيوز –
من رواية : شارع ايدون: اضاءات من الذاكرة
د.محمد حيدر محيلان
الحلقة الثالثة والعشرون
1975-1987
كان الجو حارا والناس صيام .. انه شهر البركات شهر الخير شهر رمضان المبارك..وامام المحلات تنتشر البسطات الرمضانية ، فكنا نسهر حتى الصباح في المحل واجواء جميلة وام كلثوم تصدح : مكة وفيها جبال النور طلة على البيت المعمور .. من اغنية القلب يعشق كل جميل .. وسيد النقشبندي (و ابتهال اني ببابك مولاي ) وكنا نصوم ونفطر في المحل عندما يضرب المدفع الذي كان على ظهر التل وكان لوقع صوته فرحتان، فرحة دويّ المدفع واشتياقنا لصوته الذي يذكرنا بقصف المدفعية السادسة التي كانت في قريتي سوم ايام الحرب مع اسرائيل 1967-1968 ، وفرحة حلول وقت الغروب وانفكاك الصوم…وكنا كالعادة نعرض امام المحل صناديق التمر وشرائح عجينة قمر الدين التي يصنع منها الفلاحون العصير ويشربونه غالبا عند السحور ، و شوال جوز الهند (وسحارة ) صندوق خشب فيه جوز قلب وعلب القشطة وجميعها متطلبات حشوة القطايف التي يصنعها بدير …وكان يصنع التمر الهندي والسوس وكان اولاد بدير محمود ومحمد يتمتعون بسمعة تجارية وجودة منتجاتهم عالية ..فكانت الزبائن تصطف على الدور لشراء القطايف (الكبير والوسط والعصافيري )ونحن في المحل وجارنا الدلقموني نبيع مستلزمات القطايف .. كانت اجواء رمضان جميلة وروحانية في شارع ايدون وتتحول المطاعم
لبيع المخللات والعصائر لانها تمنع من العمل والبيع بالنهار للاطعمة وحيث لا زبون يشتري بالنهار فالكل صائم وحتى اخواننا المسيحيون كانوا يحترمون شعائر المسلمين وعباداتهم فلا تجد مسيحي ياكل بالشارع او امام الناس في حين قد يتجرأ احد المسلمين ويفطر على مرأى العامة جهالةً وحمق، واذا القي القبض عليه عيَّد بالسجن (عند دار خالته) على راي الكثيرين… كان ابو جورج اسبسيوتي وهو مسيحي ارمني يتفقد التجار جيرانه بالثلج الذي يخزنه في فريزر الثلاجة خصيصاً وبكميات كبيره لينال اجر وثواب ذلك، فكان يمر على جارنا ابو احمد، ومعظم التجار وكانوا يبادلونه المعروف والتواصل الجميل، فيتجمع التجار من حوله ،ويدخلون على بيته يهنئونه في اعياد الميلاد وغيرها وكانوا يخرجون من عنده ، وبينهم والدي وبايديهم بيض ملون وحلوى وشوكلاته.. وكانوا ايضاً مسيحيو الحارة يعايدون على التجار في عيد الاضحى وعيد الفطر .. فالعلاقة حميمية وانسانية وتحمل معاني جميلة بين المسلمين والمسيحيين في شارع ايدون وكبقية المناطق في اربد والمملكة …فيمتاز مسيحيو الاردن بثقافتهم الاسلامية بالاضافة للتراث العربي التشاركي في الملبس والمأكل والحفلات وكثير من القيم المجتمعية العربية واذكر ان كثير من الطلاب زملائنا في المدارس من المسيحيين كانوا يحضرون حصة الدين الاسلامي ومنهم الصديق هاني سمير يارد الذي ذكر ذلك في حديثه عن مدارسه ودراسته، فمسيحيو الاردن ومعظم الدول العربية يتمتعون بوعي ديني واخلاقي وثقافي وليست لديهم النزعة الدينية او التطرف .. كان جو رمضان في شارع ايدون له نكهة خاصة وكانت الناس تنتشر بكثرة والحركة والحياة تدب في الشارع اضعاف ما كانت عليه في الايام العادية…
كنا في المحل أنا ووالدي واخي تحسين واخرون من اخوتي، والجو رمضاني صيفي حار والوقت يقترب من الظهر .. كانت بسطة رمضان امام المحل تمر وقمر الدين وجوز قلب وجوز هند مستلزمات رمضان والقطايف… دخل علينا المحل رجل مُسِنْ ، يرى عليه اثر السفر والتعب ولا يعرفه منا احد، سأل عن حاجته فوجدها.. وافق على السعر.. واراد ان يدفع لنا …فنظر فاذا نحن عصبة فأوجَسَ خيفةً الشيخ العجوز… وآثر أن يخرج( الصرة) (وهي محفظة النقود من القماش او كيس قماش او محرمة قماش يضع فيها الفلاحون النقود ويصرونها : يعقدونها، فسميت صرة ) خرج العجوز خارج المحل، وخشي ان يفتحها امامنا فنطمع بنقوده فنستولي عليها !! ومن باب الحرص خرج من المحل وانزوى في الزاوية اليمين من البسطة الملاصقة لدكان الدلقموني جارنا، وانحنى واخرج الصرة وتناول المبلغ المطلوب، وعاد ودفع ثمن السلعة لنا، واخذها وانطلق…وبعد قليل حدث ان خرج اخي محمود امام المحل ونظر بجانب البسطة المعروض عليها البضاعة فاذا صرة الرجل العجوز موجودة بين الصناديق .. فتناولها واعطاها لأبي ….
وقلنا ان الرجل انتحى جانباً ليخفي الصرة والنقود عنا ، ولكن الله اراد لها تقع بأيدينا .. فاخذها أبي وقبل ان يفتحها خرج ونادى جارنا ابا حسين الدلقموني وجارنا ابا احمد المزاري واخبرهم بالقصة… وطلب منهم الوقوف على عد المبلغ…. وفعلا وقفا، وبدأ والدي يعد النقود: واحد اثنان ثلاثة…مئة .. مائتان… ثلاث مائة… ثلاث مائة وخمسون… نعم ثلاث مائة وخمسون ….شهد التاجران الحاضران على المبلغ اقفل أبي الصرة واحتفظ بها لديه لحين ظهور صاحبها…
الحلقة الرابعة والعشرون
وبعد ان انقضى ثلثي النهار وشارفت الشمس على الغروب وتأهبت الناس للرواح وتسارعت السيارات للحوق وقت الافطار ..والكل ارتفعت لديه حدة النزق .. سمعنا صوت مرتفع ..وبدأ عراك بالايدي عند محل بدير حيث تتزاحم الناس على القطايف ..خرجت مسرعاً واذا اثنان يتعاركان بسبب الدور …
– ابو حسين جارنا : وحدوا الله يا اخوان .. مش مستاهلة الشغلة …
– احدهم وقد اقذع الاخر مسبات وعراك :اللهم إني صائم.. بقلك لا تفطرني لا تخليني افك صيامي عليك!!
– اللهم انك صائم وما خليت علينا مسبات!!
– بقلك اللهم إني صائم .. إني صااااائمممم
– حسبي الله عليك..
انفك العراك وتدخل الغانمين( واخذ دور الي قدامه وسب عليه)… واللهم انه صائم…. (اشك انه ظل صائم بعد التجني والظلم والتعدي على حقوق الناس)..
عدت للمحل …واذا الرجل العجوز. امام المحل اشعث اغبر يرى عليه اثر السفر ويعرفه منا الجميع.. ولكنه تغير خلال هذه الساعات او قل كبر اضعاف عمره، من القهر والمقت والزعل والصيام واللهفة والفاجعة على المبلغ الذي فقده .. ومن يحمل مثل هذا المبلغ في صرة الا من باع بقرته او خرافه او ارضه وها هو يفقدها فتشتد لوعته وتزيد حسرته … الرجل يبحث عن شيء في الشارع أمام المحل سأله اخي محمود:
– عن ماذا تبحث يا عم ؟ هل فقدت شيء؟ قال خليها على الله يا عم ؟ وبعد الألحاح عليه قال له محمود تعال وأدخل.. وفعلا دخل وجلس على كرسي صغير خشب وقش….
– الرجل العجوز الملهوف: مرحبا يا عمي ما انسيت عندكم صرة فيها مصاري!!؟
– اخي تحسين مثبطاً الرجل ومازحاً : يا حجي مين بلاقي صرة بايام هالجبر وبده يعترف فيها . روح الله بعوضك.!!
– ابي : يا تحسين أهدا !! .. تفضل يا حجي اجلس .. (وابي مشغول بمراجعة حسابات مع محاسب تاجر الجملة الشرقطلي) … الرجل العجوز يكاد يموت لهفةً وحسرة… واخي تحسين آخر تَرْيَّقَة :
– يا حجي انت لما اشتريت من عنَّا طلعت فتحت الصرة برَّة خارج المحل ، تخمين وقعتها برة ولقاها ابن حلال واخذها…
– الملهوف: اه صحيح يا عمي والله بتحتشي صحيح .. تَقُومْ .. لعاد ألَحِق أدوَّرْ عند غيركو….
– ابي: اهدا يا تحسين اترك الختيار بمصيبته ولا تزيدها عليه..
– اقعد يا حجي ولا يهمك…(ابي وقد انهى حسابات الرجل وخرج المحاسب: )قديش مصرياتك يا حجي !!؟ وشو الي صار معك !؟
– والله يا عمي رُحتْ اشتري جاج وعند بياع الجاج مديت ايدي عالصرة وما لقيتها فقمت ادور عليها وانْشِدْ الناس ووصلتْ لسوق البخاريه وصرت اصيح بالشارع يامين شاف يامين لقى صرة مصاري… وما حدا اشتال بصاعي… وتذكرت إني أشتريت من هون وقلت بلتشي حدا لقاها…..
– ابي واضعاً نظارته بيده ويده على خده متاملاً العجوز ولهفته… مع ابتسامة ارتسمت على وجهه …بنشوة رد الملهوف واحتساب ذلك عند الله:
– قديش مصرياتك يا حجي !!
– ها يا عمي !!؟
– قديش فيها الصرة الي ضيعتها !؟
– (350 نيرة) حق حاكورة بعتها.. والله يا عمي بجنب الدار ..قبل بومين عشان اصرف وما لي والي ولا عندي راتب …
– ولا تهون يا حجي… شو اسمك !!
– أنيْ …. بقولو ليّ ابو علي …..يا عمي ..
– بعت حاكورة عندي… وقاعد بصرف بحقها…
– اتوكل على الله يا حجي صرتك بأمان… لقيناها وراك تاركها قدام المحل.. انت خفت منَّا نقشطك اياها وهيها رجعت النا .. صُرْتَكْ عندنا.. ولا يهمك….
– بالله يا عمي لقيتوها !!! (ونهض الختيار ليشكر والدي فاجلسه وطمأنَهُ … ولكنه لم يستطع ان يحبس دموع الفرح … وكان موقفاً مؤثراً… ودرساً بليغاً لنا ..تعلمناه والمجالس مدارس .. بل التجارة والتعامل مع الناس مبادىء والامانة هي أساس التجارة وبركتها)….
– اه توكل على الله هسا بنعطيك اياها ….
– ابي طلب من اخي تحسين ينادي جيرانا ابو حسين وابو احمد ليشهدا تسليم الصرة …على سنة الله ورسوله، حيث يُسَنْ احضار شهود عدل ليشهدا على ذلك……
– حضر الشهود العدل وتم تسليم الصرة للختيار بعد ان عدها ابي عليه بالورقة.. على مسمع ومراى من الجميع.
– ابو علي: جيرة الله غير اعطيكو حلوان ….
– ابي : توكل على الله واحنا مبسوطين انك لقيتها…. والحلوان علينا….
– اعطيني اسمك الكامل.. وراجعني بعد يومين بدي اساعدك لوجه الله …
بعد ايام عاد الرجل العجوز ودخل المحل كنت انا واخي تحسين وكانت صباحاً .. وسأل عن والدي فقلنا له لم يحضر بعد .. واجلسناه بانتظار ابي…
واخذ يحدثنا عن تاريخه وانه كان يعمل مزارعاً وحراثاً عند الكثيرين وقضى حياته يجد ويكدح وياكل من عرق جبينه كحال معظم الاردنيين الفلاحين والبدو الذين كانوا بهمة عالية ومعنويات …
وكان يبدو عليه تعب السنين وحصاد العمر وخريف الحياة .. كل ذلك تترجمه عروق ساعديه وتجاعيد وجهه وجفاف كفوفه التي تحكي قصة كفاح مجيد وعرق وتعب.. هؤلاء ربوا جيلاً من الشباب العصامي الواثق المعتمد على نفسه وساعديه…الذي لم يمد يده ولا يستعطي المارة… بل شق الصخر بكبرياء وعنفوان وقلب التربة الاف المرات ليدفن فيها الزرع فيخرج شطأه فيستغلظ ثم يستوي على سوقه .. تلك حكاية عمر انقضى …ويهرم الرجل وتضيق ذات يده ويضطر لبيع ارضه ليسد رمق العيش ليأكل .. وياتي ليشتري حاجياته فتضيع صرته باذن الله لِيُساقَ لقدرٍ آخر ….
نظرت للرجل العجوز مرات ومرات .. والبؤس يغلف وجهه الا ان معنوياته عالية وامله بالله كبير …هكذا كانوا اجدادنا… ثم جاء ابي … ونهض العجوز يصافحه…