أدب الشباب في محافظة إربد / أماني المبارك

أماني المبارك
إربد الأقحوانة بين الماضي والحاضر.
لعب شمال الأردن دورا هاما في مسرح التاريخ باعتباره ممرا تجاريا وعسكريا ومحطة هامة في المشرق تأثر بالأحداث التاريخية التي مرت عليه قديما وحديثا، والشاهد على ذلك ما يرتسم جليا فوق أراضي المنطقة المجاورة لها من آثار مثل
التل الاثري الاصطناعي الذي بني من الصخر والحجارة منذ الاف السنين ويضم دارا للسرايا العثمانية زمن الامبراطورية العثمانية، وما زالت أرض معركة اليرموك، ومعركة فحل، وأضرحة الصحابة الكرام، وأم قيس(جدارا) والقويلبة (أبيلا) وبيت راس(كابتولياس) وطبقة فحل(بيلا) شواهد تربض فوقها لتدل على مكانتها العريقة، إضافة إلى اكتنازها بالموارد الطبيعية، هذا الشمال الذي ارتبط بمدينة إربد وهذا المكان بعبقريته الخاصة والمميزة بخصائص بيئات الشمال وجغرافيتها استطاع أن يعكس خصائص البيئة فكان لا بد لها من بيئات هذا التمايز الثقافي والفكري باحتضانها الشخصيات الثقافية من الأدباءالمثقّفين،الفنّانيين التشكيليّين، المسرحيّين والموسيقيّين، ومن خلال هذه المصفوفة الخاصة بأدب الشباب في محافظة إربد سأجتهد على تسليط الضوء على تجارب مجموعة من المبدعين من خلال عدة محاور أهمها علاقة ما يكتبه المبدع بتاريخ محافظته وبمن سبقوه من رواد المحافظه، ومدى تأثره بهم، وأثر المكان على كتابته، وبعده عن المركز وأثره على خدمة مشروعه الأدبي، العلاقة ما بين الكاتب من الجيل الجديد وبين المكرسين، وما الذي يريده هذا الجيل من الكتاب للارتقاء بنتاجاتهم الأدبية والفنية، وكيف ساهمت ثورة الاتصالات بتصدير نتاجه الأدبي إلى الفضاء العربي؟

تعتبر إربد موسوعة تاريخية، تتضمن مخزونا حضاريا متعددا، أشارت الدلائل الأثرية بأنها مدينة مأهولة بالسكان منذ الألف الخامس قبل الميلاد، هذه الاقحوانة كما تمت تسميتها في المصادر الإسلامية وعرفتها العصور الحضارية المتعاقبة زاخرة بالمادة الخام التي كانت وما زالت السبب الرئيس لاستقرار الحضارات على أرضها وقد ارتبطت سهول حوران بهذا الاستقرار كما كانت هذه السهول جزءا من أهراء روما التي اعتمدتها الامبراطورية الرومانية للتزود بقمح حوران، أربيلا إحدى مدن الديكابوليس العشرة، فموقعها الاستراتيجي المتوسط يعدّ حلقة وصل بين أجزاء بلاد الشام الشمالية والجنوبية فكانت زراعة القمح سببا في ظهور ما يسمّى قوافل المكاريّة الذين تخصصوا في نقل الحبوب من سهول إربد الخصبة إلى دمشق عبر طريق تراجان المعبدة والمارة ببصرى الشام سببا لاتساع الاتصال بين إربد وجوارها وبين دمشق عبر التاريخ في العهدين المملوكي والعثماني، وظلت مركزا للمواصلات في العصر العباسي يربط بغداد بفلسطين ومصر والشمال الاقريقي.
إربد الخرزات هكذا ارتبطت في موروثنا الشعبي حيث استقرت العشائر التي استوطنتها كل عشيرة بجوار بئر أو خرزة، حتما سيؤثر وأثر تاريخ المحافظة على ما أكتبه من نثر أو شعر أو قصة، وتضمين الشواهد التاريخية وأبطال المعارك فيها وانتصاراتهم، كما أن طبيعة المكان الذي ولدت ونشأت فيه كان بمثابة عملية ترجمة غير مباشرة لكتاباتي فاللوحات الطبيعية للحصاد، بيادر القمح، الفلاحين ومناجلهم، أشجار الزيتون، بركة العرايس، الزعتر البري والقبار، عيون الماء، الأودية، الدحنون وزهرة الأقحوان الحاضرة في ذاكرتي منذ الطفولة، إطلالة طبريا، هضبة الجولان، وجبل الشيخ، جزء لا يتجزأ من مكونات قريتي ملكا التي امتزجت كتاباتي بها وتلونت بصورها، وبهذا كتبت:
فلاّحة؛
بيدي حفنة قمح
وأرضي زيتون
كرامتي من يرموك
وصمودي؛
يضرب جذره
بين الصّخر
لِينبتَ زعتر.

شمسٌ
تُلهمني الطّريق
تُقرضني من حنطتها؛
كسرة نور
ليصبح قلمي قنديلا
يضيء فِكرتي
فتنضج الكِسرة
ليكتمل رغيف!
إربد مدينة احتضنت الشعراء والأدباء كما أم قيس الأثرية(جدارا) احتضنت مسارحها الغربية والشمالية الفلاسفة والأدباء، وتحاور النقاد والأدباء بين جنبات شارع الأعمدة وسبيل الحوريات وعلى مطلها الغربي المشرف على بحيرة طبريا وجبل الشيخ نظم الشعراء أجمل الأشعار.
فالشاعر اليوناني ميلياغروس الجداري المولود بالقرن الأول الميلادي، كان جامعا للقصائد، إذ تروي كتب التاريخ أنه تمكن من جمع نحو 134 قصيدة، شكلت نواة الأنثولوجيا -المختارات الأدبية- اليونانية أطلق عليها “الإكليل”
فالشاعر الروماني القديم أرابيوس المولود بالقرن الرابع الميلادي يتوجه إلى زوار مدينة أم قيس الأثرية ويطلب منهم الاستمتاع بالحياة فيقول بأشعاره المنقوشة على شاهد قبره “إليك أقول أيها المار، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، تمتع بالحياة فإنك فانٍ”
التجربة الكتابية لا بد لها أن تتأثر بشكل أو بآخر بالرّواد الذين خاضوا تجربتهم الإبداعية الخاصة
التّجرِبة الحقّ، والموهبة التي صُقلت وتطورت أدواتها الكتابيّة بالتّجارِب المولودة من رحم البيئة، وقسوة الظروف، والافتقار للمنصات، الذين اتخذوا من بيئتهم مادة خصبة للكتابة، فالرواد في محافظتي كثر وفي طليعتهم شاعر الحياة والإنسان والجمال مصطفى وهبي التّل(عرار)، الرمز الثقافي والأدبي والفكري في إربد، وبيته الواقع في تل إربد شاهد خالد ما زال إلى الآن مقصدا لأهل والأدب والثقافة تقام فيه الكثير من المهرجانات والأمسيات والنشاطات الثقافية، فبالرغم من وجود مسافة زمنية بيننا ولكن من خلال متابعتي لأعماله وسيرته استطعت أن أكون صورة واضحة الملامح عن هذا البدوي الملثم، الذي عكس بيئته وهويته وتراثه على أعماله الأدبية وبما أنني من بيئته حتى وإن تأثرت الآن بالتطور في جميع المجالات الحياتية إلا أنني أتوافق معه وتأثرت بالمفردات والصور الخاصة بالتراث الشعبي بمحافظة إربد.
وفيما يخص العلاقة التي تربطني بالمكرسين وما أريده منهم للارتقاء بنتاجي الأدبي فهذا المحور ربما كان الأهم في مسيرتي؛ لأنني أرى بأنني كنت أسيرة المنتصف، تسمرت ما بين الرّفض والقبول في آن واحد بانتظار صدور صكّ الاعتراف بنتاجي الأدبي، أقول ذلك لأن تجربتي كانت قاسية في بداية مسيرتي، لأن العلاقة بيننا كانت أقرب للقطيعة والإقصاء منها إلى الاحتواء مما أدى فيما بعد لخلق الفجوة بيننا وانعدام الحوار وتبادل الخبرة والأسلوب وذلك يعود لاعتبارات الكاتب المكرس بأنه يعتلي كرسيه العاجي ويتطلع بدونية لمن هم في أولى مراحلهم وتجاربهم الإبداعية حتى ولو كان هذا الجيل الجديد يمتلك الموهبة الحق والإبداع والرؤى الجديدة وذلك خوفا من تفوقهم عليه وأخذ مكانته التي يحظى بها وبالتالي ظهور جيل جديد يهدد مسيرة المكرس الأدبية، ومن هنا بدأ يُمارس دور الإقصاء لأي مشاركات وأنشطة لهذه الفئة الجديدة، وحرمناهم من الانخراط في المشهد الثقافي في الوقت الذي يجاهد فيه هذا الجيل الجديد لأن يأخذ الفرصة الأولى أو أن يُعطى له طوق النجاة وسحبه من قاع التهميش، والسماح لهم بالمشاركة الجادة والإضافة بما يمتلكونه من أفكار خلاقة ومبدعة، فالجيل الجديد بحاجة لأن يكون على مسافة قريبة من المكرسين والنقاد والمثقفين المختصين، حتى لا يضطّره فيما بعد استنكار ما يقومون به من مشاريع أدبية في ظل الإشكاليات المطروحة على السّاحة الثّقافية؛ بظهور هذا الجيل الجديد، وتعرضه للإحباط، فلا أظن أننا سنختلف في أن
تطور الإبداع والكتابة يتوقف على العملية النقدية؛ من خلال توجيه الكاتب بأهمية القراءة النقدية، والحرص على امتلاكه لأدوات الكتابة الإبداعية، ووقوفه على مواطن القوة والضعف في كتاباته، المكرس الحق يقع على عاتقه متابعة هذا الجيل، وتقويم مسيرة الكاتب، ومرافقته باستمرار؛ لتوجيهه إلى ما هو أسلم وأصوب، وإنارة السبيل له ليبدع ويكتب عن بصيرة، متفاديا الهفوات التي اعتاد الوقوع فيها.

لا بد من الإشارة إلى أن مدينة إربد توجت مدينة للثقافة الأردنية لعام ألفين واثنين وعشرين كما توج لواء بني كنانة التابع لها لواء الثقافة الأردنية لعام الفين وثلاثة وعشرين، وتزخر بالنشاطات الثقافية المختلفة، لكن هذه النشاطات لن تخدمه ومشروعه الأدبي كما تخدمه العاصمة التي تتواجد فيها معضم الدوائر والمؤسسات والمراكز والوزارات التي تصب في خدمة الكتاب
فمن المعوقات التي تواجه الجيل الجديد في محافظة إربد بُعدها عن المركز –العاصمة- وهذا له الأثر الكبير في تقييد وشلل حركتهم الأدبية فالكاتب الإربدي ومعضم كتابها من الجيل الجديد يعيشون ضمن مستويات معيشية متواضعة وأغلبهم من طلاب الجامعات يعتمدون على عائلاتهم من الناحية المادية ولا يستطيعون تحمل أعباء المواصلات حتى وإن توفر ذلك فإن معظم النشاطات تقام مساءً فيضطر الكتاب التغاضي عن حضور الفعاليات الثقافية، وبالتالي انحسارها ضمن محافظته وجمهورها، ويقاس على ذلك أيضا صعوبة مسارات النشر لأن أغلبها تتمركز في العاصمة وتكلفة النشر مرتفعة وهذا لا يخدم نتاجاتهم الأدبية بل يجعلها قابعة في الظل بعيدة عن المتلقي وفرصة الانتشار، كما أن معارض الكتاب تقام أيضا في العاصمة فإصداري الأدبي الذي طبع في عام 2020 شارك وحده في المعرض ولم تسعفني المسافة التواجد فيه.

ولكن رغم وجود هذه المعوقات إلا أن ثورة الاتصالات استطاعت أن تخدمنا بشكل كبير وتخطي نتاجنا الحدود الأردنية إلى الفضاء العربي، فمما لا شك فيه أن للتكنولوجيا أثر واضح على الأدب العربي بشكل عام، فقد تمخض عنها جيل أدبي من الشباب الذي أخذ على عاتقه مهمة الأدب، وجعله وظيفته اليومية التي تعبر عن همومه وتطلعاته وذلك من خلال نشر النصوص، تعديلها، حذفها، تسجيلها، أو حتى الظهور عبر الكاميرا وكأنه في أمسية أدبية يتابعها حضور كبير من مختلف أنحاء العالم على التطبيقات المختلفة، هذا جله جعل الكاتب والمتلقي في نقطة تقارب واضحة، يستطيع من خلالها أن يعبر المتلقي أو المتابع عن إعجابه، ووضع رأيه في خانة التعليقات، التسجيل الصوتي، أو حتى الرد المباشر من خلال انضمامه للبث الذي يظهر فيه الكاتب بالتزامن مع وجود الإعلاميين، وأصحاب المواقع الالكترونية، وأصحاب المجلات الذين يتهافتون على من أصبحت حولهم هالة الشهرة لنشر أعمالهم الأدبية، التي لا تحتاج الوقت والجهد الكبيرين، إضافة إلى خلق الحوار والنّقد المباشر عن النص المنشور أو الأعمال الأدبية الصادرة له عبر وسائل الاتصال المختلفة، فالكتاب أصبح بيد المتلقي بكبسة واحدة عند تحميل ملف المستندات، ولكن علينا الاعتراف بأن التكنولوجيا ساعدت على ظهور بعض المتسلقين للأدب الذين لا تمتّ أعمالهم في الأدب بصلة ولم يقدموا إضافة إلى المحتوى الأدبي المطروح عبر وسائل الاتصال سوى تشويه الحقائق، والاستخفاف بذائقة القراء، رغم شعبيتهم وشهرتهم على المواقع مما يثير القلق حول مستقبل الأدب ورواده، فوجود مثل هؤلاء المتسلقين يشوه ويسيء إلى نبل وأهداف الأدب السامية، فتطفو الوفرة على حساب النوع.