45
كنانةنيوز –
السياحة الثقافية
بين مطرقة التنمية الاقتصادية وسندان الاستدامة
الأستاذ الدكتور هاني هياجنه
أستاذ في كلية الآثار والأنثروبولوجيا – جامعة اليرموك
السفير العلمي لمؤسسة ألكسندر في همبولت الألمانية لدى الأردن
خبير معتمد لدى اليونسكو في حقل التراث الثقافي
لا تقتصر وظيفة صناعة السياحة الثقافية بمفهومها الواسع على زيادة الدخل والإيرادات الاقتصادية، بل تتجاوزها لدعم الهوية الوطنية، وحفظ الثقافة والتراث الثقافي وصونه وإدارته، ودرء الآثار السلبية للسياحة الجماهيرية التقليدية، كما أصبحت تمثل نهجًا للتفاهم المتبادل والحوار والترابط، وتحقق وظيفة تعليمية توعوية تساعد الحكومات في التأثير على الرأي العام لكسب الدعم للأهداف الوطنية.
في معرض مساهمتي في الخطّة الشّاملة للثّقافة العربيّة وتحديثها، الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) والتي اعتُمِدت بحلّتها الجديدة والمحدثة في نهاية العام المنصرم 2022، فقد آثرت أن تتضمن الخطة المحدّثة تحت باب “الهوية والموروث ومقتضيات الانخراط في مسار الحداثة”، ولأول مرة في تاريخ هذا المشروع الثقافي التنموي العربي، محوراً أساسيًا حول السياحة الثقافية في العالم العربي والآمال المعقودة عليها في التنمية، وذلك سعيًا لتضمينها نواحٍ جديدةً من مكونات التراث، ووضعها في مركز الاستراتيجيات العربية المعاصرة في مجال السياحة، ولإيماننا بأن التراث الثقافي، بشقيه المادي وغير المادي، شاهد على المهارات والدرايات البشرية التي تكيفت مع التاريخ، والظروف الاجتماعية والاقتصادية منذ بدء الخليقة وصولاً إلى وقتنا الحاضر.
على الرغم من ازدياد الاهتمام بالسياحة في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، إلا أنها مازالت من أقل مناطق السياحة نمواً على المستوى العالمي، وظلت حصّتها من السياحة الدولية من أدنى المعدلات عالمياً، علمًا بأن المنطقة العربية تتقاسم وجهات سياحية تلبي كافة أنماط السياحة، الطبيعية، والثقافية، والتراثية، والدينية. كما أنها موطن لمراكز تراثية وحضارية رائدة تربط جميع أنحاء العالم، وفيها آفاق مغرية للسياحة تشمل إضافة إلى ذلك، الرياضة، والتسوق، والرحلات البحرية، والمؤتمرات، والسياحة العلاجية وغيرها الكثير. ومع ذلك كله فقد فشلت المنطقة عموما من الاستفادة من مواردها لجني فوائد السياحة الدولية، على الرغم من قدرة هذا المصدر ليصبح بديلاً للاقتصادات القائمة على الطاقة، ووسيلة لتنويع الموارد. ولم تكن المنطقة العربية لتصل الى هذا المستوى المخيب للآمال، لولا مجموعة من العقبات التي تعيشها، وأبرزها الصراعات السياسية والتطرف الديني، والتوترات الجيوسياسية، وعدم الاستقرار، والتدخلات العسكرية، والمناخ السياسي المضطرب الذي أدى إلى تشكيل صورة سلبية للمنطقة في العديد من الأسواق المحتملة. فقد أصبحت المنطقة، وصورتها مسرحَ حربٍ واضعاً إيّاها في غمار تحديات كبيرة حالت دون تدفق طبيعي للسياح الدوليين إليها، لا سيما بالنظر إلى ما شهدته مواقع التراث الثقافي من استهداف وضعها في أتون الحرب. كما جرها “الربيع العربي” إلى عواقب وخيمة لا يحمد عقباها على صناعة السياحة، والأهم من ذلك على التراث الثقافي، كما تسبب تصعيد النزاعات في المنطقة عبر العقود الأخيرة، ولا يزال، في معاناة إنسانية مأساوية، كان له تأثير سلبي مباشر على الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية، وأصبح التراث الثقافي بحد ذاته موضع نزاع شديد في المنطقة، وهدفاً للإرهاب، فتفاقمت تحديات إدارة هذا التراث وتنمية السياحة المستدامة. وأدت الأحوال الدامية في بعض الدول إلى هجرات قسرية على نطاق واسع، كانت سبباً في فقدان الشعوب لفضاءاتها الثقافية الطبيعية والمكانية التي كانت تمارس فيها عناصر مختلفة من تراثها الثقافي، لا سيما تراثها الحي.
ومن جملة التحديات الأخرى في وجه السياحة المستدامة التدهور البيئي والاجتماعي الذي خلق حالة من عدم التوازن بين الاستهلاك الحكيم للبيئة وتنمية السياحة الثقافية من جهة، واستثمار التراث الثقافي من جهة أخرى؛ فعوامل تلوث الهواء، والاستغلال المفرط لقاعدة الموارد الطبيعية والتراثية في المنطقة، وبروز عمالة الأطفال، وإقصاء السكان المحليين من مشاريع التنمية السياحية في مناطقهم، ما هي إلا مؤشرات تحذيرية على تدهور البيئات الحاضنة للتراث الثقافي. يضاف الى ما سبق محدودية الوعي بالتنمية السياحية المتوازنة التي قادت إلى عدم القدرة على مناقشة أثر التهديدات المستقبلية على السكان المحليين والبيئات الحاضنة للتراث الثقافي، فضلاً عن نقص صارخ في تنفيذ التدابير والمؤشرات لرصد حالة الموارد والمواقع المعرضة للتنمية السياحية، وإن ننس، فلا ننسى ضعف التدابير المالية لحماية موارد التراث الثقافي والحفاظ عليها وتفسيرها وإدارتها، وعدم الالتفات بشكل كاف إلى دور المجتمعات المحلية ومتطلباتها وحقها في هذه الموارد، إذ قصّرت المخططات التنموية للسياحة الثقافية في مراعاة متطلبات المجتمعات المحلية في سياق التنمية السياحية الشاملة، ومشاطرتها النواتج بعدالة وتوازن، إذ يؤمَلُ من أي استراتيجية للسياحة الثقافية مراعاة احتياجات المجتمع بأسره، فيستحيل تحقيق مستقبل عادل للسياحة الثقافية في نواتجها الإنمائية دون مثل هذا الخط من التفكير، فهذا هو الأساس الوحيد لبقائها وتطورها في المستقبل، ولحفظ أصول التراث الثقافي وصونها.
ألقت تلك العوامل وغيرها بظلالها السلبية على السياحة الثقافية عموماً في كثير من الدول العربية، فأصبح من المحتوم انتهاج استراتيجيات تراعي قضايا مثل جودة الموارد البيئية، والتنوع البيولوجي، واحترام المجتمعات المحلية، وتطبيق مقاييس مبتكرة لتقييم ذلك. فعادة ما كان يتم التركيز على الفوائد الاقتصادية المباشرة وتقييمها باستخدام أنواع مختلفة من المتغيرات والمقاييس والمؤشرات، ولم يكن ثمة اعتبار لضمان التوازن بين القضايا البيئية والاجتماعية في إطار الخطط التنموية؛ ما يفضي إلى ضرورة اتباع السلطات الرسمية وأصحاب المصلحة الآخرين لنهج أكثر استدامة في تخطيط تنمية السياحة الثقافية