كنانة نيوز –
الثقافة والبناء الفكري
(سلسلة مقالات في الفكر والتفكير والثقافة)
التعلم “أساس الثقافة”
كتبها الدكتور إبراهيم علي الطيار
يعد التعلم أحد حاجات البشر الضرورية والتي لايمكنه العيش من دونها أبداً، حيث بدأ الخلق بالتعلم فعلم الله آدم عليه السلام الأسماء كلها مع بداية الخليقة، فكان التعلم هو أساس استعمار البشر للأرض وأصل قدرتهم على التكيف فيها والتأقلم مع معطياتها المختلفة، وقد استمر الإنسان بالتعلم من خلال الاستفادة من المصادر المختلفة والمتاحة كالبيئة والغير بطرق مختلفة، مما أسهم في بناء خبراته المتنوعة وتكوين مخزونه المعرفي المتوارث القابل للنمو والتراكم والانتشار والتفرع.
فالتعلم بحد ذاته عملية تحتاج إلى طرفين هما المعلم والمتعلم، وقد يكون المعلم بشراً أو غير ذلك من العوامل والمعطيات والأشياء المحيطة بالإنسان من أحياء وجمادات والتي تكوّن مصادر المعرفة للإنسان، أما المتعلم فهو مصطلح ينحصر بالبشر والكائنات الحية الأخرى التي يمكن تعليمها نوعاً من السلوكيات المقصودة فقط، ولا شك أن عملية التعلم هي عملية لا تتوقف على وجود عنصريها السابقين بل يتعدى ذلك إلى وجوب توفر البيئة المناسبة للتعلم بالإضافة إلى الحاجة ونوعية المعرفة وطريقة التعلم وهذا مما يطول الحديث عنه.
وقد خلق الله الإنسان ذلك الكائن الحي بعقل قابل للتعلم المستمر وذو طاقة وسعة غير محدودة، لذلك فإن علاقة الإنسان بعملية التعلم هي علاقة مستمرة يمكن حدوثها بكل الأوقات والأماكن وبأشكال مختلفة، فكلما زاد تلقي الفرد للمعرفة من مصادر مختلفة ومتنوعة زاد اتساع الأفق لديه وبالتالي زادت قدرته على الربط وبناء العلاقات والمقارنة بين المعلومات المختلفة علاوة على الاستفادة من هذه المعرفة وتوظيفها في حياته اليومية.
وعلى ذلك فالتعلم يكون على شكلين أولهما التعلم الممنهج وهو تعلم مخطط له ذو هدف محدد ونتاجات مُتوقعهة ومتنوعة وهذا لا يكون إلا في مؤسسة تعليمية أو من خلال عملية التلقي الفكري المعتمدة على توفر منهجية تعليمية مناسبة للأفراد، إذ تعمل الدول المختلفة على وضع مناهج تعليمية تُعبر عن فلسفة الدولة والمجتمع وترمي لتحقيق أهداف معرفية وفكرية معروفة ومحددة كذلك تقوم الأحزاب المبدئية على سبيل المثال بتدريس أفرادها مناهجها المختلفة من خلال التلقي الفكري المباشر، مما يشكل ذلك قاعدة رصينة لثقافة إيجابية قادرة على البناء والتغيير.
أما الشكل الثاني من التعلم فهو التعلم اللامنهجي أو ما يسمى بالمنهاج الخفي، إذ أنه تعلم عشوائي متعدد المصادر والتوجهات وغير مخطط له ولا يُبنى على أهداف مدروسة، وبالتالي فهو لا يشكل ثقافة إيجابية قادرة على صنع التغيير المرغوب به، وفي حال شَكَّل التعلم اللامنهجي ثقافة ما فإن هذه الثقافة تكون غير هادفة ولا تسهم في التغيير أو البناء ولكنها قد تفيد شخصية صاحبها فقط، بل وفي بعض الحالات قد تكون سبباً في عزلته عن غيره.
إذ يعتبر التعلم غير الموجه وغير المنهجي شكل من أشكال الجهل لأن تأثيره قد يكون سلبياً على الفرد والمجتمع، فهو يسهم في تكريس العشوائية وضياع الشخصية والهوية وثم يسعى المجتمع أو الفرد للبحث عن قدوة يتبعها بغض النظر عن القاعدة الفكرية والمعرفية للفرد أو المجتمع وهذا الأمر يخضع للتغير وحالة عدم الثبات، لذلك يعتبر المتعلم غير الموجه متعلماً جاهلاً أثره على المجتمع كأثر العدو فهو عنصر زئبقي يمتلك المعرفة ولكن معرفته هذه التي يملكها لا تؤثر ولا تبني بل قد تشكل معولاً من معاول هدم المجتمع، لاعتقاد هذا النوع من المتعلمين أن ما يملكه من معلومات هو المطلوب فقط والكافي فكما يقول الفيلسوف برتراند راسل “مشكلة العالم أن الأغبياء والمتعصبين دائماً ما يشعرون بالثقة في أنفسهم، أما العقلاء فهم يشكون دائما في قدراتهم” فالشك هنا لدى العقلاء حالة من حالات محاكمة الممعطيات والربط والنقد للمعرفة التي يمتلكونها لكي تكون الثقافة التي تكونها هذه المعرفة واعية ومناسبة لبناء الفرد والمجتمع في كل الحالات.
وعلى كل ما سبق فإن التعلم المنهجي الموجه والهادف هو التعلم الذي يبني الثقافة الإيجابية المطلوبة والقادرة على البناء والتغيير نحو الأفضل وليست فقط عبارة عن ترف فكري أو معرفي، فالتعلم المنهجي هو الذي يشكل القاعدة المعرفية الثابتة والمناسبة والتي تساعد في تنمية القدرات الفكرية وتعزيز عمليات الربط والفهم والاستيعاب والاستنتاج والنقد والتغيير الواعي، إذ أن التعلم وحده لا يكفي لبناء الأمم والمجتمعات ولا حتى بناء شخصية الفرد بل يجب أن يكون هذا التعلم هادفاً ويبنى في الاصل على قواعد ثابتة تمزج ما بين الحاجات والمعتقدات الراسخة وتحافظ على الهوية وتحقق الانطلاق الفكري نحو ثقافة مسؤولة تغير في شخصية وسلوك الأفراد والمجتمعات بشكل إيجابي قادر على البناء والتغيير.