الثقافة “بين المعرفة والسلوك” /بقلم الدكتور إبراهيم علي الطيار

كنانة نيوز – مقالات –

الثقافة والبناء الفكري (سلسلة مقالات في الفكر والتفكير والثقافة)
الثقافة “بين المعرفة والسلوك”
بقلم: الدكتور إبراهيم علي الطيار
إن مصطلح الثقافة هو مصطلح تشابكت حوله الآراء والأقوال، ومع أنه ظهر وشاع في القرن التاسع عشر وارتبط بعملية التعلم ومع ما يتعلمه الإنسان من المصادر المختلفة مع حياته، إلا أن هذا لم يكن أول العهد بمصطلح الثقافة فلو عدنا إلى الأصل اللغوي لهذه الكلمة لنجدها مشتقة من الجذر الثلاثي “ثقف” بضم أو كسر القاف والذي يشير إلى عدة معان حسب ماذكره القرطبي وابن منظور أهمها الفطنة والتعلم وتقويم الاعوجاج وتحقيق الاستقامة والمظهر الحسن والتعلم النافع والذكاء والغَلبة، وفي اللغة الإنجليزية فقد ارتبط هذا المصطلح مع الزراعة والحراثة لكونها عملية تستلزم تسوية الأرض وإزالة المعيقات منها وتغيير شكلها وإعادة ترتيبها بشكل قابل للتوظيف.
وفي التعريفات المختلفة لها نجد أن العلماء العرب والأجانب أمثال مالك بن نبي وتيلور ومالينوفسكي وكلوكهون وغيرهم يربطون الثقافة باساليب الحياة المتنوعة للفرد أو للمجتمع ويربطونها بالعادات والتقاليد ومع الموروث الحضاري والخبرات الفردية المتراكمة، ومع عدد من المظاهر البشرية الفكرية أو الإبداعية كالرسم والشعر والأخلاق وقد قال عنها البعض بأنها وسيلة لتحسين الواقع وتحقيق الأفضل.
ومن تتبع أغلب ما قيل عن الثقافة نجد أن الثقافة هي سلوك فردي أو جماعي يبنى على قاعدة فكرية ثابتة أو متغيرة، وهذا يشير إلى أن الثقافة نظام متكامل له مدخلاته وعملياته ومخرجاته، حيث أن مدخلات هذا النظام ترتبط بالمعرفة فكل معرفة مهما كانت قد تشكل قاعدة لمنظومة الإنسان الثقافية ومُدخلاً لها لذلك فقد علَّم الله آدم الأسماء كلها منذ بداية الخلق وأنزله إلى الارض ليزداد آدم عليه السلام من اكتساب المعارف المناسبة التي تساعده في العيش والتعامل مع ما حوله من معطيات متنوعة من خلال الربط والاستنتاج والاستنباط.
ولا شك أن عمليات النظام الثقافي لدى الإنسان متعلقة بنوع وطريقة التفكير التي ينتهجها حيث إن التفكير المادي يبنى على قاعدة مادية ومعرفة مادية هي الأساس بذلك، وأن التفكير الاستدلالي يُبنى على قاعدة واقعية محضة فيجعل الإنسان معطيات واقعه هي مصدر تفكيره لا محل تفكيره فلا يسعى إلى تغيرها بل يصبح جزءاً منها يسير بمقتضاها فقط، وفي الوجه المقابل تماماً يكون صاحب القاعدة الفكرية الواعية التي تبنى على الفهم والنقد والمبدأ السامي ذي تفكير واعٍ ومستنير ويصبح عامل بناء لا معول هدم في مجتمعه وبين ذويه.
وفي النتيجة تكون مخرجات النظام الثقافي لدى الإنسان على شكل سلوكيات مختلفة تُعبر عن القاعدة الفكرية التي يمتلكها وعن عملية التفكير التي تمخضت عن تلك القاعدة، فالثقافة المادية هي ثقافة أنانية لا تبني سوى ما يُهدم سريعاً والثقافة الواقعية تزيد من المشكلات ولا تسهم في حلها وإن حدث ذلك يكون من الصعب تعميم التجربة مستقبلياً، أما الثقافة الواعية التي تُبنى على أسس مبدئية واعية وهادفة مرتبطة بالجانب الروحي الحق تدوم وتستمر وتسهم في التغيير وفي البناء على كافة المستويات الفردية والجماعية.
وبما أن الثقافة الشائعة لدى الأفراد أو المنتشرة في المجتمعات هي نتاج المعرفة التي قُدمت لهم بوسائل مختلفة، لذلك يكون المجتمع الذي يعيش في منطقة زراعية ذو ثقافة مرتبطة بالعمل الجاد والإنتاج الأساسي والاعتماد على الذات، وتكون ثقافة المجتمعات الصناعية مختلفة تماماً عن ثقافة المجتمعات الزراعية لأنها تبنى على إنتاج الرفاهية والاعتماد على الغير، وهنا تظهر لدينا أيضاً ثقافة المجتمعات فاقدة الهوية، حيث أن أي مجتمع ليس من المجتمعات العريقة ولا يملك قاعدة معرفية خاصة به يميل إلى ثقافة الفقاعة التي ترتبط بالكم دون النوع وتكون معرضة للزوال في أي وقت وبشكل سريع، وعليه فمن يريد أن يبني ثقافة تمتلك قابلية الديمومة والمنافسة والتغيير يجب أن يركز على ما يُقدَم للأفراد من معرفة في البداية ومن ثم يربي الوعي لديهم من خلال صراع فكري مستنير ذي مرجعية ثابتة متفق عليها من قبل اغلبية الأفراد في المجتمع ولها السيادة وتَحترم من يعارضها.
ولعل ما يرتبط بأذهان الناس بأن الثقافة هي معرفة فقط أو أنه الأدب بأشكاله المختلفة، فهذا مفهوم جزئي لأن الثقافة هي سلوك إيجابي فاعل ذو أشكال مختلفة منها ما هو مرتبط بذات الفرد قد لا يظهر بشكل واضح ومنها ما هو مرتبط بالمجتمع أو بعلاقات الفرد بغيره أو بمنتجات العملية الفكرية للفرد من أشكال سلوكية مختلفة لفظية أو غير لفظية يمكن تسجيلها وتتبعها، فالثقافة المادية بأشكالها المتنوعة تكون مهددة في الغالب بالتلاشي والزوال أما الثقافة الفكرية فهي الأدوم والأنسب للمجتمعات البشرية، فليس ما دار في اسبارطة وأثينا بالخافي على أحد من العارفين وليس يخفى أيضاً ما شكلته المعرفة والثقافة الإسلامية الجادة والواعية من قاعدة لتغيير العالم ككل.