الدولة والوطن عند الإنهيار بجبل اللويبدة / بقلم حسن محمد الزبن

كنانة نيوز – مقالات –

الدولة والوطن عند الإنهيار بجبل اللويبدة

بقلم : حسن محمد الزبن

اِنهِيار العمارة فِي جبل اللُّويْبدة كان الصَّدى اَلذِي هزَّ وِجْدَان الأرْدنِّيِّين صغيرهم وكبيرهم، مليكهم ومليكتهم، عُمَّالهم ومسْؤوليهم، إِنَّه نَبْض الأرْدنِّيُّون الواحد فِي الملمَّات والصِّعاب، فِي الأحْداث التِي تُؤرِّق اَلضمِير، والْقلوب تَلهَج بِالدُّعاء أن يَشمَل المنْكوبون اللُّطْف والْحماية، تتناولهم مِن أَقصَى الشَّمَال إِلى أَقصَى الجنوب، مَشاعِر الألم ومشاعر الأمل المتمازجة لَعلَّ يأْتيهم أخْبارًا بِنجاة المغْمورين تَحْت الأنْقاذ، لَكِن الموْتَ كان حاضرًا ولَا اعتِراض على أَمْر اَللَّه، ولَا على قُدرَه، وَكَان أَمرُه مقْضيًّا، فاخْتَطف الانْهيار تِسْعًا مِن أَروَاح الأبْرياء المطمْئنين تَحْت سَقْف بَيتهِم، الملَاذ والْمأْوى، وآخرِين بِعمْر الورْد يحْتفلون بِالْعمْر اَلجدِيد، وعمر الورد، وَهُم لا يعْلمون أَنهُم على مَوعِد مع اَلرحِيل، وآخرِين يُحضرون دُروسهم لِلرَّوْضة والْمدْرسة، لَكنَّهم لَم يُكْملوا آخر السَّطْر، لِأنَّ الانْهيار كان النُّقْطة الأخيرة فِي الكتَاب الذِي بَيْن أَيدِيهم.
أَكتُب هذَا الوجع، وَهذِه الفاجعة، لِأنَّهَا أصابتْنَا جميعًا، وَجبَل اللُّويْبدة وَإِن لَم أَسكُنه، فقد كان مِن أَجمَل أَحيَاء عَمَّان اَلتِي كُنْت أُحِب اَلمُكوث فِيه ساعات طَوِيلَة، بل مِن عُشَّاقه، ولَا يَكَاد يَوْم يَمُر إِلَّا وَتكُون لَه زِيارة، ففيه أَلْق المكَان يَستحْوِذ على مَشاعِرك، وفيه بريق الأمْكنة اَلتِي تَأخذُك إِلى عَالمِها اَلذِي يُبْهِج النَّفْس، ولَا زال هذَا اَلحَي يُذَكرنِي بِصحْبة الشُّعراء والرِّوائيِّين والْكتَّاب، وَصُحبَة الرَّسَّامين والْفنَّانين، وأكْثر اِهتِمام النَّاس بِفاعليَّات المكَان مِن بَعْض الصَّحفيِّين والْمصوِّرين، وكثير مِن الحالمين والْمتأمِّلين ومن تسكّنهم أَفكَار طَوِيلَة.
وكم داعبتْنَا الأفْكار هُنَاك، وكمَّ طرْحنَا مع مِن نلْتقيهم، أَهَميَّة هذَا اَلحَي اَلعتِيق، وكم هُو بِحاجة إِلى عَيْن الدَّوْلة لِلاهْتمام بِه، مع أنَّ جُهُود أَهلَه وساكنيه وَاضِحة بِالتَّرْميم، والتَّجْميل، لَكِن الأمْر يَحْتاج جُهْدًا أَعظَم وأشْمل، لِيكون تَطوِير يحفظ بِيئة مُجتَمَع، ويحْتَاج خُبَراء فِي وَضْع اَلحُلول، لَهُم رُؤية هَندسِية لِكلِّ هذَا الإرْث اَلقدِيم، الذي يُقَارِب عُمرُه مِئة عامٍ على الأقلِّ، يَحْتاج مُؤسسَات دَولَة، وجاهزيَّة مُخْلِصة، وَعالِية، لِتخْدم مَبانِي هذَا اَلحَي قَبْل أن تغْتاله الظُّروف البيئيَّة، فَترمِيم المتهالك مِنهَا كان ضَرُورَة، حَتَّى لا نَصِل إِلى مَا وصلْنَا إِلَيه فِي هذَا الانْهيار المفاجئ، وَإِن كان لَه أسْبابه، فَفِي هذَا اَلحَي جُذُور لِعائلات أُردُنية، مَا زَالَت تَتَوارَث السَّكن والْإقامة فِيه، ولم تَتخَل عَنْه، رَغْم رحيل عائلَات إِلى مَناطِق أَكثَر رُقيًّا وَحَداثَة، إِلَّا مِن تَمسُّك تَحكمُه ظُرُوف الحيَاة، وَبقِي مُتَمسك بِالذِّكْريات حَتَّى وَإِن كان البيْتُ مُتهالكًا، وتجاوز اَلعُمر الافْتراضيِّ لِعمْر البنَاء حسب المعايير الهنْدسيَّة، وَأنَا هُنَا سأشير إِلى ضَرُورَة وَضْع قَانُون خاصٍّ بِالْأبْنية الآيِلة لِلسُّقوط بِحكْم عُمْرِها، والْبيئة المحيطة فِيهَا، حِماية لِلْمواطن اَلذِي يَقطُنها، وحماية لِلْممْتلكات، حَتَّى لا نَقْع لِسلْسِلة مِن الكوارث مُسْتقْبلا.
صحيح أنَّ الدَّوْلة والْوَطن لَم يُغادروا مَكَان الفاجعة، وَتَوحدَت الإرادة والْإدارة، وتشابكتْ اَلأيْدِي والسَّواعد لِفرق الإنْقاذ مِن الأمْن اَلْعام والدِّفاع المدَنيِّ والْكوادر الطِّبِّيَّة، وَكُل فَزعَة جَماعِية وَفردِية، فِي جُهُود الإنْقاذ لِلْأرْواح اَلتِي تَمكُث بِأنْفَاس أو غَيْر أَنفَاس، تَحْت الرُّكَام والْغبار، إِلَّا أنَّ الأمْر يَحْتاج لِمَا بَعْد ذَلِك، ونحْن فِي خَشيَة مِن سُقُوط مَبْنى آخر فِي اللُّويْبدة، أو غيْرهَا مِن المناطق، وَنكُون أَمَام نَفْس المشْهد، ونفْس المأْساة، ونفْس اللَّوْعة والْوَجع والْمرارة، لِعائلات أُخرَى مُطَمئنَة لَكِن لا تَعلَم أَنهَا على مَوعِد مع اِنهِيار.
وليْس هذَا فَحسَب كم مِن مَرَّات عَدِيدَة أُعلن عن حُدُوث زِلْزَال بِقياس مُعيَّن، ولم تَحدُث أَضرَار، لَكِن هل نَعلَم بِمَا يُخَبئه القدر، طبْعًا لا، فَلمَّا لا نُعِد اِحْتياطات تحسُّبًا لِذَلك، خَاصَّة أنَّ الأُردن مِنطَقة نَشطَة بِحدوث الزَّلازل، والْمباني الضَّعيفة لا تَصمُد أَمَام الهزَّات اَلقوِية، حَتَّى وَإِن كان رَأْي الجيولجيون أَننَا مَناطِق مُعتدلَة بِقوَّة الزَّلازل مُقَارنَة مع دُوَل الجوَار.
والشُّكْر يُسجِّل لِلْجهَات الرَّسْميَّة والْجهات التَّطوُّعيَّة اَلتِي عَملَت على مُسَاعدَة المتضرِّرين، والمنكوبين، وَتقدِيم الرِّعاية الطِّبِّيَّة اللَّازمة فِي مِثْل هذَا الظَّرْف اَلعصِيب، ورحم اَللَّه من قضى إِلى جِوَار رَبِّه، والْعزاء لِأَهل وَذوِي الضَّحايَا، فالْمصاب مُصَاب كُلٌّ أُردُني، إِنَّا لِلَّه وَإنَّا إِلَيه راجعون.
حمى اَللَّه اَلأُردن وأهْله،