السادة عندما يكذبون / احسان الفقيه

السادة عندما يكذبون / احسان الفقيه

خرج أبو سفيان بن حرب سيد قريش في قافلة تجارية إلى الشام، وكان لا يزال على وثنيته، فلما سمع بهم هرقل ملك الروم دعاهم إلى مجلسه، ثم أحضر تُرجمانه وسألهم: أيّكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ (يعني رسول الله محمد) فقال أبو سفيان: أنا أقربهم به نسبا، فأدناه هرقل وجعل أصحاب أبي سفيان عند ظهره حتى يُكذّبوه إذا كذب.
قال أبو سفيان وهو يروي بعد إسلامه تفاصيل تلك الواقعة: فوالله لولا الحياء من أن يأْثِروا عليَّ كذبا لكذبت. لقد جسّد أبو سفيان حالة انتشرت في المجتمع العربي من كون السيادة لا تعني فقط أن يكون الرجل سيدا في قومه بالمال والجاه والسلطة، بل يكون أيضا سيدا في نفسه، ما يعني أن يتعامل مع الآخرين بمقومات السيادة وأخلاقياتها، ولذا أبى الرجل أن يُؤثر عليه الكذب أمام قومه.
حال السادة اليوم تغيّر كثيرا، فهم يكذبون، ثم يكذبون، وهم يعلمون أن الشعوب تعرف أنهم كاذبون، ولا يكترثون إذا خلا كذبهم من الحبكة الدرامية التي تجعل الخدعة تنطلي على البسطاء والمغفلين من القوم. لئن كان الكذب مرفوضا في جميع الملل والأعراف، إلا أنه غدا تحت مظلة المصالح السياسية أمرا مقبولا مُستساغا، فإن يكذب الحاكم أو رمز في نظامه، فهو واجب الوقت عند البعض، يندرج لديهم تحت فقه الواقع، للأسف، ولكن، لماذا لم يعد السادة يُقدّمون مبررات تقتنع بها الجماهير؟ لماذا لم يعُد يشغلهم إتقان تحريف الكذب؟ الحقيقة أن ذلك يعكس ضآلة تأثير المجتمعات العربية في صنع القرارات السياسية، فالسادة يتصرفون في شؤون الدول على أساس أنها إقطاعيات خاصة، واستطاعوا تكميم أفواه الشعوب، وسلب إرادتها وسَوْقها كالقطيع، فلا وزن لهم يُذكر في حسابات السماسرة الأكابر من أهل السلطة.
أزمة حصار قطر كانت إحدى المحطات البارزة التي تجلّى فيها كذب السادة وإطلاقهم التهم جُزافا بدون أدلّة تصلح للاتِّكاء عليها، بل إن بعضهم يرميها بتهم كان الأحرى أن تُوجّه صوْبهم. فبناءً على خطاب منسوب لأمير قطر، سارعت دول المقاطعة بتثبيت حزمة من الشروط التعجيزية، على الرغم من عجزها عن بث تسجيل للخطاب المُختلق لإقناع الرأي العام، في ظل النفي القطري الرسمي، فالمهم هو اختلاق سياق للبناء عليه في فرض الوصاية على الدولة القطرية، واستلاب قرارها السيادي، ولو كان ذلك السياق واهيا. وعلى طريق الكذب على قطر في دعمها التطرف، اعتمد الساسة على كذبة أخرى في وصف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالتطرف والإرهاب، رغم أن الأمم المتحدة لا تُصنف الحركة جماعة إرهابية. استمر السادة في كذبهم المفضوح، فاتهموا الدوحة بدعم الحوثيين في اليمن ضد التحالف العربي الذي تقوده السعودية، وهو أمر غير قابل للتصديق، فقطر – قبل أن يستبعدها التحالف بعد الأز مة الأخيرة – كانت شريكا مُؤسِّسا للتحالف العربي. دخلت قطر بعشر طائرات مُقاتلة شاركت في الموجة الأولى لضربات «عاصفة الحزم» وانضمت دفعة أولى من قواتها قوامها ألف مقاتل، مُعزّزة بصواريخ دفاعية ومنظومة اتصالات متطورة، استعدادا لعملية استعادة صنعاء، إضافة إلى تدخل قوة قطرية أخرى التحقت بالقوات السعودية لحماية الشريط الحدودي من تسلّل عناصر قوات الحوثي/صالح. شكّلت قواتها جزءًا مهما من التحالف الذي يقاتل الحوثيين في اليمن، في الوقت الذي تشير عدة تقارير غربية، على انفراد الإمارات باستهداف قوات الحوثي بدون استهداف قوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي تستضيف أبو ظبي نجله المُعيَّن سفيرا لليمن في الإمارات حتى 2015، إضافة إلى تقارير غربية سابقة أشارت إلى أن تأخر تحرير تعز كان بسبب رفض الإمارات تسليح المقاومة الشعبية، لأن قادتها تابعون لحزب الإصلاح المحسوب على الإخوان المسلمين، وهو ما نشرته «فورين أفيرز» الأمريكية.
والأصل الذي تفرعت عنه هذه الكذبة، اتهام قطر بالتحالف مع إيران ضد الخليج، في الوقت الذي كانت قطر تواجه مع التحالف، ذراع إيران في اليمن المتمثل في الحوثيين، وحليفها في سوريا المتمثل في بشار الأسد. لكن السادة غضّوا الطرف عن زعيم الانقلاب المصري، الذي دعّم بشار الأسد والحوثيين وحفتر ليبيا، فكافأوه باتخاذه حليفا ينفذ خطة الحصار. اتهموا قطر بالتحالف مع إيران التي تهدّد الأمن القومي الخليجي، في الوقت الذي تقيم الإمارات علاقات اقتصادية متينة مع طهران التي تحتلّ الجزر الإماراتية. رأى السادة أن يتّهموا قطر بدعم الأذرع الإيرانية في الخليج، فادّعوا أنها تدعم شيعة البحرين (قوة معارضة)، على الرغم من مشاركة قطر ودعمها للتدخل السعودي المعروف باسم «درع الجزيرة» لإنهاء الاحتجاجات التي تمت عسكرتها لتتحول إلى أعمال حرق وتخريب واستهداف لمؤسسات وأجهزة الدولة. وطالما أن الأدلة المادية لا تلزم السادة في توجيه الاتهامات لقطر، فلا غضاضة في اتهام قطر بدعم كل حركات التمرد في السعودية والبحرين لزعزعة الاستقرار فيهما.
لا يحتاج الأفراد وحدهم للالتزام بالإطار الأخلاقي القِيمي في التعاملات، الساسة أيضا يجب أن يُراعوا في سياساتهم وقراراتهم وتصريحاتهم البُعد الأخلاقي، إن لم يكن اعتزازا منهم بهويتهم الثقافية التي ميَّزتهم عن غيرهم، فعلى الأقل احتراما للشعوب التي لن يستمر بها الحال في أن تبقى مسلوبة الإرادة مغيبة الوعي.